[تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات)]
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧].
((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى))، النجوى هنا مصدر معناه: التحدث سراً، مأخوذة من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن السر يصان عن الغير، فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء.
وقيل: بل سميت النجوى بهذا؛ لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض، أو هو من النجاة.
وتخصيص العددين: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ)) إلى آخره، إما لخصوص الواقعة، فكان قوم من المنافقين على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين، أو لأن التناجي للمشاورة وأقله ثلاثة، يعني: أن أقل ما تقع به مشورة ثلاثة؛ لأن التشاور لابد له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يرجح إحدى الكفتين.
ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في اليسرية، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر، على أنه عمم الحكم بعد ذلك فقال: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ))، كالاثنين، ((وَلا أَكْثَرَ))، كالستة وما فوقها، ((إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا))، أي: يعلم ما يكون بينهم في أي مكان حلُّوا؛ لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يكون بينهم من المناجاة في أي مكان؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء ليس نتيجة قرب مكاني، فالمخلوق إذا علم شيئاً عن مخلوق، أو علم ما يتكلم به مخلوق آخر، فيكون بسبب قربه منه في المكان، لكنه يغيب عن الأماكن الأخرى، أما الله سبحانه وتعالى فعلمه ليس ناشئاً عن قرب مكاني حتى يتفاوت هذا العلم باختلاف الأمكنة وتفاوتها، وإنما الله سبحانه وتعالى معهم بعلمه في كل مكان وحيث ما حلو.
روى ابن جرير، عن الضحاك في هذه الآية قال: هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا.
وقال ابن كثير: حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك.
ولا شك أن هذا هو التفسير الصحيح للآية، ولا يمكن أبداً أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى بذاته موجود مع المخلوقين، ولذا أجمع السلف على أن الله سبحانه وتعالى عالٍ على عرشه، بائن من خلقه، منفصل عن هذا العالم، ولا يحل فيه كما قال الضالون في ذلك.
وقال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم.
افتتح الآية بالعلم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، ثم ختمها بالعلم: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، ليلفت نظرنا إلى أن المعية المذكورة هنا إنما هي بالعلم: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧].