[تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)]
قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:١ - ٣].
قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) كلمة (منفكين) معناها: منفصلين وزائلين، يقال: فككت الشيء فانفك أي: انفصل، والمراد من الآية: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى تأتيهم البينة، وقيل: لم يكونوا منتهين عن كفرهم مائلين عنه حتى تأتيهم البينة.
والمراد من قوله عز وجل هنا: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعنادهم بعدما تبينوا الحق منها.
وقوله: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) أي: اليهود والنصارى الذين عرفوه صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أدلته، وشاهدوا آياته، فإنهم لم يكونوا هم والمشركون وهم وثنيو العرب ((مُنفَكِّينَ)) أي: منفصلين وزائلين عن كفرهم وشركهم، أو منتهين عن كفرهم مائلين عنه ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: الحجة القاطعة المثبتة للمدعى، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ)).
فمجيئه صلى الله عليه وسلم هو الذي أحدث هذه الضجة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومكابرتهم بأنه كان شيئاً معروفاً لهم يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحَقّ أن يتبع، فإن ما هم فيه أجمل وأبدع، ومتابعة الأذى فيه أشهى إلى النفوس وأنفع.
وقوله تعالى: ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ)) عبر هنا بالفعل المضارع الذي يدل على الاستقبال، مع أنها في الماضي، فمعنى ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ)) أي: حتى أتتهم البينة، وتلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رسول من الله، وأطلق على النبي صلى الله عليه وسلم بيّنة؛ لأنه هو الذي بين لهم ضلالهم وجهلهم، وهذا السياق فيه بيان نعمة الله على من آمن من الفريقين؛ إذ أنقذهم به.
وقيل: معنى الآية: لم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم نبياً، فلما بُعث إليهم نبي افترقوا.
وقوله: ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ)) هو محمد صلى الله عليه وسلم، ((يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً)) وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط والباطل وحذف المدلسين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق فيعرفه طالبوه ومنكروه معاً.
وقوله عز وجل هنا: ((يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً)) المقصود: يتلو ما تضمنته الصحف، والمكتوب فيها، وهو القرآن الكريم، والدليل على أنه يتلو ما تضمنته تلك الصحف وهي القرآن الكريم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب لا من كتاب؛ لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام.
ثم وصف الله تبارك وتعالى هذه الصحف المطهرة فقال: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: مستقيمة لا عوج فيها، واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل، كما قال تعالى في وصف هذا القرآن الكريم: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢].
وقد اختلف المفسرون في المقصود من قوله تبارك وتعالى: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، فقيل: إن هذه الكتب القيمة هي ما تضمنه القرآن الكريم من أحكام.
وقيل: هي اقتباسات من الكتب السماوية التي سبق إنزالها من قبل، فالقرآن فيه أشياء مما في صحف إبراهيم وموسى كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:١٨ - ١٩] أي: هذه المعاني التي وردت في سورة الأعلى.
وكذلك هناك آيات منها قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:٤٥] إلى آخره، فهذا أيضاً إشارة إلى تلك الكتب القيمة التي أشار القرآن إلى مواضع منها، وكما في آخر سورة الفتح أيضاً: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:٢٩]، ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:٢٩]، فهذا إخبار عن أشياء موجودة في الكتب السابقة قبل إنزال القرآن الكريم، فإن الكتب التي في صحف القرآن هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما مما حكاه الله في كتابه عنهم، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم، وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه.
وهذا الكلام فيه نظر، فكيف يُقال: ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون وإنما كلامنا هنا عن التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله؟! لا ما طرأ عليه التحريف من بعد، فهذا الاحتمال غير وارد أصلاً؛ لأن القرآن الكريم حينما يشير إلى الكتب السابقة فالمقصود بها تلك كما أنزلها الله، وليست كما طرأ عليها التحريف، فهذا التعليل بأن الله سبحانه وتعالى قص علينا ما يوافق الحق وكان قوياً وسليماً، كما قال هنا القاسمي، فهذا غير وارد ابتداء؛ لأن هذه الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى ليس فيها إلا الحق والتوحيد، فالإشارة هنا إلى الكتب كما أنزلها الله، وليست إلى الكتب المحرفة، فليس هناك حاجة أبداً إلى أن يقول: وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون.
يقول: ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق، وإنما فضلوا عليه سواه، ومعنى (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: سور القرآن، ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهناك تفسير آخر لقوله: (يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) (فالصحف مطهرة) قد يراد بذلك ما بينه تبارك وتعالى في قوله تبارك وتعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٩]، أو أنه في اللوح المحفوظ، و (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: فيها سور القرآن وآياته، وإنما قيل لها: كتب؛ لأن الكتب -كما قلنا مراراً- هو الجمع، فسميت الآيات والسور كتباً لما جمعت من أحكام وأمور شتى، ((قَيِّمَةٌ)) يعني: عادلة مستقيمة تبين الحق من الباطل.
وهناك قول بأن الكتب المقصود بها الأحكام (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: فيها أحكام قيمة، واستدل من قال بذلك بقول الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:٢١] أي: حكَم وقضى الله، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (والله! لأقضين بينكما بكتاب الله) أي: بحكم الله؛ لأن الذي قضى به في هذا الحديث ليس مذكوراً في القرآن؛ فدل على أنه حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هناك قول بأنها (كتب قيمة) يعني: سور القرآن، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم، فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة مجموعة قيمة، ولما كان لسائل أن يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قد انفكوا عن ذلك الضلال المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟! فأجاب الحق تعالى: بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه بما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله؛ حتى لا ينحرفوا عنه، فإذا عرض لأحد شبهة رجع في تفسيرها إلى العارف بمعاني الكتب، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها، وفهم أسانيدها، وأن يحافظوا عليها؛ حتى لا يضللهم فيها مضلل، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً، فإنهم اختلفوا في التأويل، وتفرقوا في المذاهب، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر، وكان ذلك بغياً منهم، واستمراراً في المراء، وإصراراً على ما قاد إليه الهوى، وهذا هو قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا} [البينة:٤ - ٥] يعني: في كتبهم، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:٥].
وقال بعض العلماء: إن صدر السورة من أول قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) * (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) * (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) في مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب وأسلموا، ثم من أول قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:٤] إلى آخره في ذم الذين كفروا ولم يهتدوا بهذه البينة.
ونزيد هذه الآية إيضاحاً؛ لأن للعلماء في هذه الآية كلام مميز.