[تفسير قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)]
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:١٠] خبر (إن) قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)).
قال الألوسي: إن الذين يبايعونك يوم الحديبية على الموت في نصرتك، كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره، أو على ألا يفروا من قريش، كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله عنه، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، والمبايعة مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له لما ربط له، وكثيراً ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم، وإن لم يكن ربط.
(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) يعني: يبذلون لك ما بذلوه من التضحيات بالغالي والنفيس في سبيل نصرتك، مقابل أن الله سبحانه وتعالى يشتري منهم أنفسهم بأن لهم الجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]، هذه هي المبايعة، وهذا هو العقد: (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)، وقد يأتي ملحد إلى هذه الآية ويستنبط منها أن هذا معناه حلول الله في شخص الرسول عليه الصلاة والسلام والعياذ بالله! فهذا كفر مبين؛ لكن المقصود من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الرسول وطاعة الله عز وجل وامتثال أوامره؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:٨٠] ومن بايع الرسول فقد بايع الله؛ لأن المقصود هو التقرب إلى الله بهذه المبايعة، فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه وتعالى، وهذا يطلق عليه علماء البلاغة: المشاكلة، فتشابه لفظة المبايعة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} مشاكلة، والمشاكلة: هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً.
قولهم: تحقيقاً كما في قوله سبحانه وتعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:١١٦]، وكقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:٥٤]، وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] واستدلال البلاغيين بقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:١١٦] فيه نظر؛ لأننا نثبت صفة النفس لله سبحانه وتعالى كسائر الصفات، وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] هذه مشاكلة؛ لأن معاقبة الظالم حسنة، وهي عدل من الله سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ)) يعني: من أساء إليك فقابله وجازيه بالمثل، وهذا عدل، لكن أطلق عليها لفظ سيئة لأجل المشاكلة، وذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته؛ لأنه مجرد المجاورة والصحبة جعل أطلق على الاثنين سيئة، فهذه هي المشاكلة، لكن في الحقيقة هي ليست سيئة، بل هي عدل ومجازاة بالمثل.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:١٩٤]، هل مقابلة العدوان يسمى عدواناً؟ لا، إنما أطلق عليه لفظ العدوان للمشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً.
ومثل ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:٣٤]، قال تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:٧٩] وهكذا.
وقولهم: تقديراً مثاله: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، يعني: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النفوس، والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة، والكلام في إبطال ما هم عليه من الصبغة، ويظنون أنه يطهر هؤلاء الأولاد، فكانوا يفعلون ذلك بالطفل مكان الختان؛ لأن الختان تطهير، فرد الله عليهم بقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:١٣٨]، فسمى الدين صبغة من حيث أنه تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
قال بعض شعراء ملوك همدان: وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أبناءنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ وقيل: إن قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، بدل من قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:١٣٥]، فصبغة بدل من ملة.
وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ) المقصود به: غسل الإسلام للمشرك أو الكافر الذي يدخل في الإسلام، (صبغة الله) يعني: هذا الغسل الذي يغتسل به، ويودع به أدران الجاهلية والكفر السابق.
إذاً: بعض المفسرين قالوا: إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:١٠]، من المشاكلة وهي: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً، فهناك مجرد ذكر البيعة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأيضاً جاءت البيعة لله سبحانه وتعالى بنفس هذا السياق.