[حياة الشهداء في الجنة]
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} ليس المقصود هنا نفي حياة البدن؛ لأن البدن افتقد الحياة بالفعل، لكن المقصود هنا حياة الأرواح.
يقول تعالى: ((بَلْ أَحْيَاءٌ)) أي: بل هم أحياء، فوق أحياء الدنيا؛ لأنهم مقربون من الله تبارك وتعالى.
((عند ربهم يرزقون))؛ لأنهم بذلوا له أرواحهم، فهم أحياء يرزقون، لا رزقاً معنوياً بل رزقاً حقيقياً كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ))).
وأخرج مسلم عن مسروق قال: (سألنا عبد الله عن هذه الآية: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا))، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية)، وهذا رواه الإمام أحمد، ورواه ابن جرير عن أبي كريب.
قال ابن كثير: وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة.
ومنهم من يكون على هذا النهر باب الجنة.
وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله تعالى أعلم.
ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها أيضاً، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم.
حديث عزيز عظيم، أي: خاصية تكاد تكون غير موجودة في غيره من الأحاديث، وهي أن ذلك الحديث اجتمع في روايته ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه).
قوله: (يعلق) أي: يأكل، وفي هذا الحديث (أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة)، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
يقول الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون).