[تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)]
{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٦٢ - ٦٩].
قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)) قيل: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين.
وقال معظم المفسرين: إن هاتين الجنتين دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن الكريم؛ لأن قوله تعالى: ((ومن دونهما)) يفيد أن هاتين الجنتين أقل من اللتين ذكرتا أولاً في الآيات السابقة، وهذا هو الظاهر من كلام عامة المفسرين، وإن كان بعضهم ذهب إلى العكس وهو تفضيل الجنتين المذكورتين آخراً على المذكورتين أولاً, ثم اجتهد في توجيه كلامه، لكن الصحيح ما ذكرناه من قبل أن الأقرب والله تعالى أعلم: أن الجنتين الأوليين أعظم وأعلى وأفضل من الجنتين اللتين ذكرتا فيما بعد, وذلك لما روي في الحديث: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين.
وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين, وقال ابن عباس: ((ومن دونهما جنتان)) أي: من دونهما في الدرج، وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل.
والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: أحدها أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء, ثم قال: ((ومن دونهما جنتان)) وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني, وقال هنا: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هنا: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: سوداوان من شدة الري من الماء.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مدهامتان)): (قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء)، وقال قتادة: خضروان من الري ناعمتان, ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض.
قوله: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: خضراوان من الري تضربان إلى السواد من شدة الخضرة.
وقيل: قوله تعالى: ((مُدْهَامَّتَانِ)) دلالة على شدة تمكن اللون الأخضر، وأنهما ممتلئتان من الخضرة.
وقال هناك في الجنتين الأوليين: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) وقال هنا: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ)).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((نصاختان)) (أي: فياضتان، والجري أقوى من النضخ).
وقال الضحاك: ((نضاختان)) أي: ممتلئتان لا تنقطعان.
وقال هناك: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) أي: فيها من جميع أنواع الفاكهة أما هنا فقال: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم، ولهذا ليس قوله: ((ونخل ورمان)) من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره, وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما.
وهذا كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:٢٣٨]، فالصلوات الخمس والوسطى منها وهي صلاة العصر، لكن هذا لمزيد من الاعتناء بتخصيص صلاة العصر بالذكر، وكذلك قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:٩٨] قوله: ((وجبريل وميكال)): هما من الملائكة, لكن هذا من باب عطف الخاص على العام.
يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، وإنما أفردهما بالذكر مع أنهما من الفاكهة لبيان فضلهما.