يقول الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.
يعني: هو في حد ذاته بصفته مسلماً معصوم الدم، لكن لما خرج على الإمام بقوة مسلحة على الخليفة في جماعة وعصابة استحق أن يقاتل لا بغرض قتله، وإنما بقصد تعجيزه عن التمرد على الخليفة، فالمقصود من قتال البغاة أن يعجزوا عن رفع السيف على الخليفة، وليس المراد استحلال دمائهم.
ولذلك نلاحظ فروقاً كثيرة بين قتال البغاة وقتال الكفار، ففي البغاة المقصود هو تعجيزهم لا استحلال دمائهم، فمثلاً الفار من ساحة القتال لا يتبع بخلاف حالة الكفار، والجريح لا يجهز عليه؛ لأنه بجرحه قد تحقق تعجيزه عن الخروج على الإمام، ولا تسبى نساؤهم لأنهم مسلمون، وغير ذلك من الأحكام، يقول الإمام الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، كحال الباغي فإنه يحل قتاله إلى أن يعجز، لكن لا يحل قتله لأنه مسلم معصوم الدم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في الإكليل: في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وأن من رجع من أهل البغي وأدبر لا يقاتل، لقوله:(حَتَّى تَفِيءَ) فمن أدبر وهرب من ساحة القتال كان ذلك نوعاً من الفيء والرجوع عن التمادي في التمرد.
وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لـ علي يوم الجمل: لا يقتل مدبر، ولا يجهز على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن! لأن هؤلاء كانوا بغاة وليسوا كفاراً، فصرخ صارخ لـ علي يوم الجمل:(لا يقتل مدبر) اي أن من يفر من الساحة لا يقتل ولا يتتبع، (ولا يجهز على جريح) فمن جرح وفقد القدرة على الاستمرار في القتال لا يجهز عليه، بخلاف جريح الكفار، (ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن).
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية؛ لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم، وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم، ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيداً، يعني: إن كان القتيل من أهل العدل ومن الفئة التي هي مع الإمام الحق ففي هذه الحال يكون شهيداً، فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار.
هذا الكلام كله لم يعجب الخوارج؛ لأن الخوارج يأخذون بأقصى طرف في هذه المسألة، فلذلك نقموا على علي رضي الله تعالى عنه هذا المسلك مع البغاة، فكان مما أخذوه على علي رضي الله تعالى عنه أنه لا يسبي نساءهم ولا يغنم أموالهم، بناءً على أنهم كفروا عند الخوارج؟! أما ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلما بعث من قبل علي كي يناظرهم فقد قال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها؟! وإن أظهر قوم رأي الخوارج ومذهبهم المنحرف، كاعتقادهم تكفير من ارتكب كبيرة، أو ترك الجماعة -خرج على الجماعة- واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم ما داموا لم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم، لكن يتعرض لهم بإقامة الحجة والجدال بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأساليب السلمية، لكن لا ينصب لهم القتال إلا إذا اجتمعوا للحرب، وإن جنوا جناية وأتوا حداً يقيمه عليهم الإمام.
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلفت على الأخرى.