[تفسير قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)]
ثم أرشد تعالى إلى جواب المنافقين ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم، فالسبب الذي سروا به وفرحوا من أجله سبب باطل لا يستوجب ذلك، فقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:٥١].
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، هذا احتجاج بالقدر في موضعه؛ لأن القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به على المعائب والذنوب.
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أي: ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية والأخروية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهذا الفرح لرضانا بقضائه في تلك المصيبة، نحن في هذه المصيبة نقوم بنوع آخر من أنواع العبودية، وهو: الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، ونحمده في الضراء كما نحمده في السراء، فهذا الأمر لم يسؤنا في الحقيقة، ولكننا نرضى بقضاء الله عز وجل، كيف والله سبحانه وتعالى لم يكتبها علينا ليضرنا بها؛ إذ هو مولانا؟! فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو مولانا الذي يتولى أمورنا ويوقع الأمور على وفق مصلحتنا الدينية والأخروية، فكيف نُساء بما يبتلينا به من المصائب والأقدار؟! (هو مولانا) يتولى أمورنا، فإنما كتبها علينا ليوطننا على الصبر عليها والرضا بها، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون)؛ لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره، (وعلى الله)، وحده، (فليتوكل المؤمنون)؛ لأن التوكل لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى.
((قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا))، هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنين؟ وكم أكلت هاتان الآيتان من قلوب أعداء الدين؟ لأنهم يمعنون في إغاظة المسلمين وكيدهم ثم إذا بالمسلمين يظهرون عدم المبالاة لهذا الكيد ويستدلون بهذه الآية الكريمة! (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، علام تشمتون؟ وعلام تفرحون والله لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا، ويكتب لنا ليوفقنا للصبر ثم للجزاء بالجنة؟ (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)؛ لأن الله يريد بنا الخير حتى فيما هو شر، لكن العاقبة للتقوى، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:١٢٨]؛ لأنه هو مولانا، فـ: (هو مولانا)، تعليل لهذا التفسير، فهو مولانا الذي يتولى أمورنا، ومولانا الذي ينصرنا، والله سبحانه قال في أوليائه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، إلى آخر الحديث المعروف، فهو مولاهم الذي يتولاهم، فلا يمكن أن يكتب لهم شيئاً يريد بهم فيه الشر، وإنما يريد بهم فيه الخير حتى لو كان في ظاهره خلاف ذلك.
(قل هل تربصون) أي: هل تنتظرون بنا، (إلا إحدى الحسنيين) أي: إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب، ليست حسنة لكنها الحسنى -الأفضل والأخير- وهما النصر أو الشهادة، فلو كان الإنسان يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويصدق الرسول عليه السلام، ويصدق وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، فهي فعلاً إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة، وهذا أقصى ما يغيظ أعداء الدين، وهذه الآية كم دوخت من أمم! وكم أزالت من ممالك! هذا هو خلاصة الكلام، أقصى ما يضرك من الأعداء هو أن يقتلوك، فالقتل في حقك إن كان في سبيل الدين فهو شهادة، وليس سقوطاً ولكنه ارتفاع إلى الفردوس الأعلى، والوعد الذي رتبه الله سبحانه وتعالى على الشهادة -كما سيأتي في آخر السورة- وعد عظيم، وكل مؤمن عنده يقين فلا يضن على نفسه بأعظم أمنية بأن يموت في سبيل الله عز وجل.
فهذه جعلت لأمة المسلمين خصيصة لا تدانيها فيها أمة من الأمم، لا سيما أحفاد القردة والخنازير؛ لأن اليهود -لعنهم الله- أخوف ما يخافون من أمثال هذه الآية الكريمة، ولذلك عبروا كثيراً عن أنهم لا يخافون إلا من المسلمين؛ لأن المسلم يعتقد أنه لو قتل يهودياً أو قتله اليهودي فسيدخل الجنة في الحالتين، وهو المعنى الذي تجسده هذه الآية: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:٥٢].
أما نحن: (ونحن نتربص بكم) إحدى السوءتين من العواقب: إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، كما أصاب من قبلكم من الأمم، أو بعذاب بأيدينا وهو القتل، وتموتون على الكفر.
(فتربصوا) بنا ما ذكر من عواقبنا.
(إنا معكم متربصون) منتظرون ما هي عاقبتكم، فلابد أن يلقى كل منا ما يتربصه، ولا يتجاوزه، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.