[تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)]
قال الله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:٣٧].
قوله: (إن يسألكموها) أي: إن يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) يعني: يذهبكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، (تبخلوا) أي: تمنعوها إياه ضناً منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها.
قوله: (ويخرج أضغانكم) أي: ويخرج جل ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم.
قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان، أي: أن المال أكثر شيء يكشف ما في داخل الإنسان، والمال هو مادة مهمة جداً من مواد الامتحان، فأي شخصية تريد أن تحكم عليها فلاشك أن موقع المال في قلبه هو من الموازين الحساسة والدقيقة التي تصلح أن يكشف بها على أخلاق الإنسان، ولذلك قالوا: سميت الدنيا دنيا لأنها دنيئة، وسمي المال مالاً لأنه يميل بصاحبه.
فهذا بيان لشدة تعلق الإنسان بالمال، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: أنه هو الذي يعطيكم ولا يطلب منكم شيئاً.
{إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:٣٧]، أي: سيخرج هذا المال أو هذا السؤال أضغانكم وأحقادكم.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بناءً على أن الإضافة هنا تفيد العموم.
قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) فالإضافة من صيغ العموم، ومن صيغ العموم أيضاً أسماء الشرط وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والجموع المضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفرد المحلى باللام، ولفظ كل، وجميع، ونحوها مثل: معشر، ومعاشر، وعامة، وكافة، وقاطبة.
فالإضافة من صيغ العموم من غير فرق بين كون المضاف جمعاً كما تقول: عبيد زيد، أي: كل عبيد زيد، أو اسم جمع كما تقول: جاءني ركب المدينة، أو اسم جنس كما في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:١٨] فهذه اسم جنس لكل النعم، أو كما في الحديث: (منعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها وصاعها)، إلى آخر الحديث، فهي جاءت بصيغة المفرد؛ لكنها اسم جنس.
الشاهد: أن من صيغ العموم الإضافة، فقوله هنا: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، هذا هو المنطوق، والمفهوم: وإنما يسألكم بعض أموالكم، ولكن لا يسألكم جميع أموالكم، وهذا البعض هو الزكاة، وعلى هذا الأساس فسر القرطبي قوله تعالى: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض وهو القليل منها فهو غيض من فيض.
قول آخر: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، يعني: لا يسألكم أموالكم لنفسه، أو لحاجة منه سبحانه وتعالى إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم، فهو راجع إليكم في الحقيقة.
وقيل: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، وإنما يسألكم أمواله؛ لأن هذا المال الذي في أيديكم هو مال الله، وهو الذي خولكم هذا المال، فحينما يكلفكم إنفاق هذا المال فهو ليس مالكم أنتم، وإنما هو مال الله الذي آتاكم، فلا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله؛ لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها.
وقيل: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أجراً على تبليغ الرسالة كما في قوله تعالى: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) [الفرقان:٥٧].
وقال صديق حسن خان: وإن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي (يؤتكم أجوركم) أي: جزاء ذلك في الآخرة، والأجر هو الثواب على الطاعة.
وقال القاسمي: قال بعض المفسرين: أي: لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير كربع العشر، وعُشره، إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم، وهو معطوف على الجزاء، والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم، ولا يخفى حسن مقابلته لقوله: (يؤتكم أجوركم)، فهناك نوع من حسن المقابلة بين: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) أي: يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال.
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ))، هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:٢٨]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها كما ذكرنا أن المعنى: ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:٤٧]، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦]، وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:٤٠].
وعقد العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في (أضواء البيان) في موضعين (٢/ ١٧ - ٢٢٠) و (٧/ ١٨٩ إلى ١٩٢) بحثاً مفصلاً حول بيان أن جميع الرسل لا يأخذون أجراً على التبليغ، وناقش فيه مسألة أخذ الأجر على تعليم القرآن وبين عدم جواز ذلك، والبحث مفصل لكن نكتفي بهذا الذي ذكرنا.
قوله: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ)) يعني: يلح عليكم، يقال: أحفى في المسألة، وألحف، وألح بمعنى واحد، والحفي المستقصي بسؤاله، كذلك الإحفاء الاستقصاء بالكلام والمنازعة، ومنه: أحفى شاربه، أي: استقصى في أخذه.
قوله: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ)) أي: يضيق عليكم ويلح عليكم فالنتيجة: ((تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) أي: يخرج البخل أضغانكم، أو: يخرج الله سبحانه وتعالى أضغانكم.
قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا وتخرج أضغانكم).
وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ونخرج أضغانكم).
وفي قراءة: (ويخرج أضغانكم)، يعني: على الاستئناف، وليست معطوفة على ما قبلها.
والمشهور عن أبي عمرو: (ويخرج) كسائر القراء عطف على ما تقدم.
قال صديق حسن خان رحمه الله: أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا عن الامتثال، (ويخرج أضغانكم) يعني: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك، فالمال أكثر ما يكشف خبايا النفس، ولذلك فمن الأمور المهمة التي تستطيع أن تحكم بها على الإنسان أن تعامله معاملة مالية، فالمال هو الذي يكشف حقيقة الأخلاق والطباع، ويظهر شح النفس.
قال قتادة: علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان، وهذا من حيث محبة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يخفيها.
أي: أن المال محبوب للإنسان جداً، فإذا نوزع فيه طولب بإخراجه بصورة أو بأخرى فحينئذٍ يظهر هذا التعلق الذي كان مطوياً في قلبه للعيان.
قال ابن كثير: وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.
فلا يجود الإنسان ببذل المال إلا إذا كان متأكداً أن هذا الذي يصرف إليه المال أعز عليه من المال سواءً كان أخاً في الله، أو غير ذلك، أو كان ينفقه لوجه الله وهو موقن أن الثواب الذي عند الله أضعاف هذا المال الذي يخرجه.