للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم القيام للقادم]

يقول ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم)، رواه البخاري.

ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار).

ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل له قصة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة، فلما رآه مقبلاً قال للمسلمين: (قوموا إلى سيدكم)، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله تعالى أعلم، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن: (أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك).

أما القول بمنع القيام للقادم فهو مستنبط من حديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والحكم الذي نستنبطه من هذا الحديث: تحريم محبة الوارد -القادم- أن يقوم الناس له.

وفي هذا دلالة واضحة وصريحة على تحريم حب القادم أن يتمثل له الرجال قياماً، وهذا الأمر في غاية الخطورة.

أما قيام الناس للقادم فهذه فيها الخلاف الذي سنذكره، وبالتالي هذا فيه إنذار خطير جداً للرؤساء والوجهاء والمدراء والنظار والمدرسون إلى آخره إذا وقع في قلبه محبة أن يقوم الناس له، بل ربما شعر أنهم هدموا حقه، وأنهم أساءوا إليه، وأنهم لا يحترمونه؛ لأنهم لم يهبوا قياماً إذ رأوه قادماً.

هذا أولاً.

ثانياً: الاستدلال بها في حق الجالسين.

وفيه التفصيل الآتي: نأخذ بمفهوم الحديث، أو بتعبير أدق: استدلالاً بقاعدة سد الذرائع، نستنبط منها أنه يكره للجالسين القيام للوارد إذا أقبل عليهم إلا في حالات مستثناة، لماذا قلنا: يكره؟ لأن الدليل هنا لا يتعرض لذلك مباشرة، وإنما يكره؛ لأنه قد يكون في تعويده القيام له كلما دخل زرع لمحبة ذلك في قلبه، فإذا توقفوا عن بذل ذلك مرة من المرات سوف يبغض ذلك ويكرهه، ويرى أنهم لم يحترموه، فبالتالي يقع في الوعيد المذكور في هذا الحديث.

أما من أجاز ذلك؛ فقد استدل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم).

في الحقيقة هذا الحديث كثير من الناس يستدلون به؛ لأن لفظه يدل على التعظيم، لكن يرد عليهم بقوله: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، وذلك لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان مجروحاً، وقد استشهد رحمه الله تعالى من أثر تلك الجراح، وكان قد أتى على دابة، فلما رآه النبي عليه السلام مقبلاً وهو مجروح قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فهذا القيام كان لأجل إنزاله؛ لأنه كان جريحاً، فأيضاً هذا مما يرد به على من جوز القيام للقادم.

وجاء أيضاً في السنن: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له؛ لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك، فهذه أقوى حجة بعيداً عن الأحكام الفقهية الدقيقة، لكن يكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكره ذلك، وأن الصحابة مع أنهم أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك كانوا يتحاشون هذا.