تفسير قوله تعالى: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً)
ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع، بقوله: {وَقَتَلْتَ نَفْساً} [طه:٤٠] أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:١٥] أي: اغتممت وحزنت أن يطبق عليك القصاص، وموسى ما قصد القتل؛ وإنما لأن موسى كان شديد القوة فعندما وكزه بيده إذا بهذه الوكزة تقتل الرجل من شدة قوته عليه السلام؛ وكما تعلمون فإن الأنبياء يكونون في أكمل صورة في كل شيء خَلقاً وخُلقاً ونسباً وقوة بالبدن وجمالاً في الصورة والحسب، وكل الصفات الخَلقية والخُلقية يكونون فيها أكمل الناس.
وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا رجلاً مصارعاً إلى الإسلام فلما دعاه قال: إن صرعتني سأسلم، وكان من أقوى المصارعين العرب، فصارعه، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم.
وفي الحديث أيضاً: (كنا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالصحابة هم أشجع الأمم على الإطلاق، ومع ذلك يقولون: إذا كنا في حالة الجهاد والالتحام المسلح مع الأعداء نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم يختبئون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمون به، (فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه صلى الله عليه وسلم).
{فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ} [طه:٤٠] أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه من الكفار؛ وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥].
{فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠] أي: ابتليناك ابتلاء، على أن الفتون مصدر كالسكون، أو إن الفتون جمع فتنة، يعني ضروباً من الفتن، أي: فجعلنا لك فرجاً ومخرجاً منها، وهو إجمال لما سبق ذكره.
{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [طه:٤٠] أي: معزز الجانب، مكفي المئونة، في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم وهو نبيهم عليه السلام، ولم يثبت أن هذا الرجل الصالح هو شعيب عليه السلام.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠] أي: بعد أن قضيت الأجل المبروم بينك وبين شعيب مع الزيادة، جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك في وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك الخبر غير مستقدم ولا مستأخر، والأمر له تعالى، وهو المسير عباده وخلقه كيفما يشاء.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: ((ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى))، تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً.
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١]، تذكير بقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:١٣]، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه، والاصطناع افتعال من الصنع، بمعنى: الصنيعة، يقال: صنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاً لإكرامه ولاختياره وتقريبه منه، ولجعله من خواص نفسه وندمائه وجلسائه، فجعله نبياً مكرماً كريماً منعماً عليه بحلائل النعم.
والظاهر هنا: العدول عن نون العظمة تمهيداً لإفراد لفظ النهي؛ لأنه قال تعالى: (وحرمنا)، (فرجعناك)، (وفتناك)، (واصطنعتك)، فهل يصح أن يقول: صنعناك بأنفسنا؟ لا؛ لأنه حينئذ سيقول: لنفسي، ولا يمكن-معاذ الله- أن يجمع ذلك في حق الله.
يقول: والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: (وفتناك) ونظيريه السابقين تمهيد لإخراج لفظ النفس اللائقة بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، (واصطنعتك لنفسي).
ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه وتعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:٤٢] أي: بمعجزاتي كالعصا، وبياض اليد، وحل العقدة، مع ما سيظهر على يده، {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:٤٢] أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠]، لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله من هذه الناحية، ولا ممن هي، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم، ولا الفتون الذي فتنه، ولكنه بين في سورة القصص خبر القتيل المذكور في قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:١٥ - ١٦]، وأشار إلى القتيل المذكور في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:٣٣]، وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:١٤]، وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:١٩]، شيء عجيب، موسى في زمن فرعون يُكفّر، ولذلك رد عليه قائلاً: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:٢٠].
وقد أشار تعالى في سورة القصص أيضاً إلى غم موسى، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٠ - ٢٢] إلى قوله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥].
وقوله تعالى: (وفتناك فتونا) قال بعض أهل العلم: الفتون مصدر، وربما جاء المصدر الثلاثي المتعدي على فعول، وقال بعضهم: هو جمع فتنة، وقال الزمخشري في الكشاف: فتوناً: يجوز أن يكون مصدراً على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور.
وجمع فتن أو فتنة فتون، وقد تكون جمع فتن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث؛ كحجوز وبدور في حجرة وبدرة، أي: فتناك ضروباً من الفتن اهـ.
وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث الفتون، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده، وهو حديث طويل يقتضي: أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره، مثل الخوف عليه من الذبح وهو صغير، فهذه فتنة، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت، وقذف في اليم، وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله، وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور.
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق حديث الفتون بطوله: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم.
وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً اهـ.