[تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)]
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:٩٧].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ} يجوز أن يكون ماضياً بمعنى: توفتهم، {الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، قد يراد بالظلم هنا الكفر، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]، وقد يراد به المعصية، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:٣٢]، ويصح إرادة المعنيين هنا.
روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) وهناك أحاديث أخرى بنفس المعنى، منها قوله: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم)، فالمسلم عليه أن يجتهد في البعد عن الكافر فلا يساكنه ولا يعيش معه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تتراءى نارهما).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين).
الهجرة مستمرة إلى أن تقوم الساعة من بلاد المعصية والفسوق إلى بلاد الطاعة، ومن بلد الظلم إلى بلد العدل، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة، ومن بلد الكفر إلى بلد الإسلام، فالهجرة تكون أيضاً من المعاصي.
{وقَالُوا}، يعني: الملائكة تقول لهم تقريراً لهم بتقصيرهم وتوبيخاً لهم: {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم في أمور دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: كنا في أرض الأعداء مستضعفين غير قادرين أن نجهر بالأذان أو أن نقيم شعائر الإسلام، عند ذلك تبكتهم الملائكة وتقول لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، يعني: أم تكونوا قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة؟ وهذا دليل على أن الرجل يجب أن يهاجر إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه.
والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، فإذا علم المرء أنه في غير بلده أقوم بحق الله حقت عليه الهجرة.
مثال ذلك: لو تعرف بلداً أفضل من مصر من حيث إظهار الدين، فعليك أن تتحول إليه إذا كنت مستطيعاً، وهكذا كل إنسان في أي مكان، أما عند العجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
{فَأُوْلَئِكَ} النفر المذكورون.
((مَأْوَاهُمْ)) أي: مصيرهم ((جَهَنَّمُ))؛ لأنهم هم الذين أضعفوا أنفسهم، إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنتهم في ديارهم.
{وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، أي: جهنم.
ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:٩٨].
ونحن في هذا الوقت عندنا جهة رسمية تتعلق بالهجرة اسمها: هيئة الجوازات والهجرة والجنسية.
فالهجرة إذا أطلقت الآن يكون معناها: الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار، سواء أستراليا أو كندا أو أمريكا أو غير ذلك.
وعندما نقول: فلان مهاجر، فإننا نعني أنه مهاجر من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار، فانعكس المفهوم، وبدل ما كانت الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين صار العكس الآن، وصار المسلمون يهاجرون إلى بلاد الكفار!