[تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)]
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:٢] أي: هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم قابل للكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر جاحد للحق كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم، فالله سبحانه وتعالى يخلقكم على الفطرة السوية فطرة التوحيد ومع ذلك منكم كافر ومنكم مؤمن، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعباً وتفرقتم فرقاً.
قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) هنا قدم الكافر لأنه الأكثر، قال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦] فتقديم الكفر باعتبار أن أغلب الناس على هذا الكفر، وأيضاً تقديم الكفر هو الأنسب لمقام التوبيخ.
قوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) أي: سيجازيكم به فآثروا ما ينفعكم، وجانبوا ما يهلككم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً.
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعلم أهل الجنة فيدخلها) خرجه البخاري والترمذي، وليس فيه ذكر الباع.
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم.
لأنه لا يقع في هذا الوجود إلا ما سبق به علم الله عز وجل وقضاؤه وقدره، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال من وقت أن يكلف إلى أن يموت فيثبته على الإيمان، ومنهم من يريد إيمانه إلى وقت معلوم ثم والعياذ بالله بعد ذلك ينتكس عن ذلك، كذلك الكفر منهم من يشاء الله سبحانه وتعالى أن يخلقه كافراً على وجه العموم، حتى إنه يقضي عمره كله في الكفر، ومنهم من يريده كافراً إلى وقت قد قضاه الله سبحانه وتعالى.
فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) مثل قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠]، وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:٣].
وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه.
يعني: يفهم من السياق أيضاً أن من الناس من يكون فاسقاً مؤمناً مرتكباً للكبائر أو المعاصي، وهذا القول قاله الحسن، وقال غيره: لا حذف؛ لأن المقصود ذكر الطرفين: الكافر والمؤمن، أما ما بينهما فما قصد الإشارة إليه في هذه الآية الكريمة.
وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، قالوا: وتمام الكلام: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) فتقف ثم تبدأ وتقول: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، وهذا كقول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:٤٥] قالوا: فالله خلقهم والمشي هو فعلهم.
وهناك تفسير لقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) أنه إشارة إلى فعل الله فقط، وأنه هو الذي خلقكم وجعل منكم كافراً وجعل منكم مؤمناً، وهذا على أن الإنسان هو الذي شاء ذلك الكفر والإيمان، أما على القول الآخر: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) ففيه إثبات لحقيقة أن منكم من يكفر ومنكم من يؤمن، فالكلام هنا على فعل المخلوقين، مثل قوله تبارك وتعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)) وانتهى الكلام، ثم يقول تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ)) فأعاد الكلام على فعل هذا المخلوق، فالله خلقهم والمشي فعلهم، ونفس هنا المعنى في هذه الآية واختاره الحسين بن القاضي وقال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
إذاً: لا يوجد تعارض بين التفسير الأول وبين هذا الحديث؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، لكن من الناس من يشاء الله سبحانه وتعالى أنه بعد التكليف يكون كافراً، ومنهم من يشاء الله أن يكون مؤمناً، وما المقصود بالفطرة؟ المقصود بها التوحيد والإسلام، أي أن كل مولود يولد على الإسلام، وعنده الاستعداد لتقبل الحق، وليس أنه يولد فقيهاً أو حافظاً للقرآن، بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:٧٨] فالمقصود هنا الاستعداد لدين الحق، فالأصل هو التوحيد ثم يأتي الشرك ويطرأ عليه بعد ذلك لسبب من الأسباب، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لأخطر سبب من هذه الأسباب -وهو تأثير البيئة على الأولاد- فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وقال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كـ عمار وذويه، ممن تلفظ بكلمة الكفر بسبب الإكراه.
وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، وهذا إشارة إلى الحديث الذي فيه أنهم أصبحوا وقد نزل المطر من السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة: (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فـ عطاء بن أبي رباح فسر الآية بهذا الحديث.
وقال الزجاج: وهو أحسن الأقوال، لكن الذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة: أن الله سبحانه وتعالى خلق الكافر وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجب لكل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان بالله تبارك وتعالى، وفي هذا من التوسط لفهم عقيدة القضاء والقدر سلامة من بدعة الجبرية الذين يسلبون العبد إرادته، وبدعة القدرية الذين ينفون القدر السابق، فالحق وسط بين الأمرين: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٨ - ٢٩]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو قدر وقوع الكفر من فلان ثم وقع خلاف الذي قدره الله فهذا عجز لا يليق بالله سبحانه وتعالى، وكذلك إذا علم الله سبحانه وتعالى وقوع الإيمان من شخص ثم وقع الكفر من هذا الذي علم الله منه أنه مؤمن ووقع خلاف المعلوم فهذا جهل لا يليق بالله سبحانه وتعالى، يقول الشاعر: يا ناظراً في الدين ما الأمر لا قدر صح ولا جبر لا مذهب الجبرية صحيح ولا مذهب القدرية، وإنما الحق وسط بين الطرفين.
قال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه تبارك وتعالى.
قضية القضاء والقدر من أخطر القضايا؛ لأنها سدس الإيمان، فهي أحد أركان الإيمان الستة، وأركان الإيمان هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لا ينجو الإنسان ولا يصح له الإيمان حتى يؤمن بقضاء الله وقدره تبارك وتعالى.
وقضية القضاء والقدر ليس كما يتصورها بعض الناس أنها عقد جلسات للجدل والمماراة كما يحصل من بعض الشباب، وكل واحد يدلي بدلوه بحسب اجتهاده، هذا يقول: الإنسان مخير، والآخر يقول: هو مسير، وكأن الموضوع متروك لاجتهادات الناس! كلا، فالإيمان بالقدر هو الركن الركين من أركان العقيدة الإسلامية، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام نصوصاً من القرآن تبين لنا ما الذي يجب أن نؤمن به في القضاء والقدر، وهذه الحقائق التي اشتملت عليها هذه النصوص لا سبيل إلى اكتشافها بالعقل، فلم يبق إلا أن يوحى إلينا عن طريق الوحي الصادق بهذه الحقائق الغيبية بالنسبة إلينا، فمثلاً: آية الميثاق هذه من الأمور المتعلقة بالخوض في القضاء والقدر وهي قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:١٧٢] إلى آخره، فهذا أمر غيبي، لا يمكن أبداً للعقل أن يصل إليه، والإيمان بهذا الأمر وهذا التقدير أمر في غاية الأهمية، كذلك أنواع التقدير وأنواع الإرادة ونحو ذلك يجب أن نتعلمه بالتلقي