للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترك النهي عن المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر]

قال الزمخشري: فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها؛ لأنها معصية لا لأنها طاعة؛ لأنها متى ما علم أنه يترتب عليها مفسدة فتخرج من حيز الطاعة إلى حيز المعصية، فيجوز أن ينهى عنها.

يقول: كالنهي عن المنكر، بل هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، فوجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر.

فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة، فرأى محمد -يعني: ابن سيرين - نساءً خرجن مع الجنازة فرجع محمد بن سيرين، فقال: الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا يعني: هذا سيسقط علينا ديننا سريعاً، ويهلك ويضعف ديننا وإيماننا لو تركنا الطاعة لأجل المعصية.

وقال -كما روي عنه أيضاً-: لا ندع حقاً لباطل.

يعني: إذا كان أقرباء الميت -خاصة النساء- لا يراعون حرمات الله سبحانه وتعالى، فهل معنى ذلك أنك إذا مات أخوك المسلم الذي يرتكب أقاربه هذه المخالفات تقصر في حقه من اتباع جنازته أو الدعاء والاستغفار له؟! فهو ميت الآن وغير مكلف، وقد انتهى عمره، وطويت صحيفته، فبقي له عليك حق صلاة الجنازة وتشييعها والدعاء له والاستغفار إلى آخره.

فلو أننا -خاصة في مثل هذا الزمان- تركنا هذا الحق لأجل الباطل الذي طرأ، وهو خروج النساء أو حصول كثير من المنكرات في الجنائز الآن فمعنى ذلك أنه لن تشيع جنائز إلا في القليل النادر؛ لأن الناس الذين يلتزمون بالشرع قلة، وهل هناك أسرة تخلوا من أناس لا يلتزمون بالشرع؟ فيوجد من النساء من تخرج تصرخ أو تنوح، ويمكن أن يوجد من أقرباء الميت من يأتي بالزهور، وربما وقع أشد من ذلك من الأحوال المعروفة في الجنائز.

فالمقصود من الكلام أننا لو تركنا الطاعة لأجل معصية لأسرع ذلك في ديننا، كما قال الحسن.

فهذا الفعل الذي فعله ابن سيرين ليس مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل في الجنازة طاعة، وهل حضور مثل هذه الجنازة التي خرج فيها النساء يكون سبباً في خروج النساء؟ وهل علاقة الحضور بوجود النساء علاقة السبب بالمسبب؟ أي: هل كان وجود ابن سيرين في الجنازة هو السبب الذي أخرج النساء كي يشيعن الجنازة؟ وهل إذا تخلف ابن سيرين سيتخلف وجود النساء أم سيبقين في الجنازة؟ فإذاً: لا يجوز الربط بين هذه الحادثة وبين ما نحن بصدده الآن من كلام في معنى الآية؛ لأن سب المشركين نهي عنه؛ لأنه يكون سبباً في أن يسبوا الله، فإذا سكت عن سبهم سكتوا عن سب الله، وهل وجود هذا الرجل سبب في وجود النساء؛ بحيث إذا انتفى السبب ينتفي المسبب، بمعنى أنه إذا تخلف سينقطع هذا المنكر؟

الجواب

لا ينبغي قياس هذا على ذاك، ولا يقاس هذا الموقف على ما نحن بصدده في معنى الآية.

فمن ثمَّ يقول الزمخشري: فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر، فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنها حضرا جنازة فرأى محمد نساءً فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا.

قلت: ليس هذا مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل الجنازة طاعة، وليس سبباً لحضور النساء؛ لأنهن يحضرنهن، سواء حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة، وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله، حتى نبه عليه الحسن.

انتهى كلام الزمخشري.

فـ ابن سيرين اعتبر هذا الموقف مثل الموقف المذكور في الآية حتى نبه عليه الحسن وبين خطأه في ذلك.

ومنه قال بعض مفسري الزيدية: واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة سواء فعل الحسن أم لا لم يسقط الواجب، لا يقبح الحسن.

وقال الخفاجي: إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وكانت سبباً لها وجب تركها، بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها، وكثيراً ما يشتبهان، فلم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن للفرق بينهما.

وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها.

وهذا تنبيه مهم جداً، فليس معنى عدم سب الآلهة عدم بيان بطلان عبادتها، وأنها لا تستحق العبادة، وأنها لا تضر ولا تنفع، فهذا لابد منه، وهذا هو من التوحيد، وهذه هي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت، لكن السب شيء وبيان بطلانها وعدم استحقاقها العبادة شيء آخر، فالنهي هنا عن سب الآلهة إذا كان يؤدي إلى سب الله سبحانه وتعالى.

فإذاً: الذي يدعو الناس إلى الدين ينبغي أن لا يتشاغل بشيء لا يؤدي إلى فائدة مطلوب منه أن يحصلها.

لكن يصف الأوثان بأنها جمادات، وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم شيئاً، مما يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة إلى سبها مادام عندنا الأدلة والحجة على إبطال استحقاقها للعبادة، فنحن بعد ذلك لا نحتاج إلى شتمها.