استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة عنصره وأصله والفسق والعداوة.
يعني: أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يستأنف كلاماً يبين فيه أن إبليس وذريته لا يستحقون أن نتخذهم أولياء، ففي الآية السابقة:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ}[الكهف:٥٠]، ثم يبين حيثيات ذلك، فيقول تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ}[الكهف:٥١]، فقد بين أولاً الصوارف عن اتخاذ الشيطان ولياً، وهي: خباثة عنصره وأصله، والفسق والعداوة، {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:٥٠]، فهذه الصوارف بين فيها أنهم لا يستحقون الولاية، وينبغي أن ننصرف عن طاعتهم لأجل هذه الصوارف التي ذكر.
وقوله:((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)) يعني: أين كان إبليس وذريته الذين تطيعونهم في معصيتي وتوالونهم من دوني يوم خلقت السماوات والأرض؟! بل أين هم يوم خلقتهم؟! هل أعانني أحد منهم حتى يستحق أن يكون شريكاً لي في الطاعة والانقياد؟! يعني: هؤلاء مخلوقون مربوبون مقهورون لا يستحقون أن تطيعوهم في معصيتي، ولا أن تتخذوهم أولياء من دوني، ولا أن تعبدوهم من دوني؛ لأن هؤلاء كانوا عدماً ثم خلقتهم، فلم أحتج إلى معاونتهم، وليسوا شركاء لي في خلقي.
يقول رحمه الله تعالى: أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض حين خلقتها، ((ولا خلق أنفسهم)) أي: وما أشهدت بعضهم أيضاً خلق بعض منهم، ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر، وهذا أبلغ.
((ما أشهدتهم)) المقصود بها: أنني لم أحتج إلى مساعدتهم ولم يعضدوني، لأني غني عن خلقي، وتأمل أيضاً قوله:((ولا خلق أنفسهم)) إشارة إلى أنهم مخلوقات، فكيف تعبدون المخلوق وتذرون الخالق؟! فمن لم يشهد فأنى يستعان به، وأنى يصح جعله شريكاً؟! فهل يتصور أن الغائب عند خلق السماوات والأرض يمكن أن يستعان به؟! ثم إذا كان غائباً ولم يستعن به فأنى يصح جعله شريكاً لله؟! لا يصح أن يكون شريكاً لله عز وجل.
ولذلك قال عز وجل:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}[الكهف:٥١]، أي: وما كنت متخذهم أعواناً لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، أي: وإذا لم يكونوا عضداً في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟! واستحقاق العبادة من توابع الخالقية، يعني: الذي يستحق العبادة هو الذي يكون قد خلق، والاشتراك فيها يستلزم الاشتراك فيها، والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير وهم المضلون، فلا يكونون أرباباً، وإنما وضع المضلين موضع الضمير ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال، وتأكيداً لما سبق من الإنكار في اتخاذهم أولياء، أي أنه قال:((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا))، ولم يقل: وما كنت متخذهم عضداً؛ لأن استعمال الصفة الظاهرة مكان الضمير فيه إبراز صفة الضلال، وإذا كانوا مضلين ففي هذه الحالة أيضاً لا يستحقون ذلك الاتخاذ كما أشار.