للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأقوال في معنى قوله تعالى: (السائحون)]

قوله تبارك وتعالى: (السائحون) فيها أقوال كثيرة، منها ما يلي: (السائحون) يعني: الصائمون، وقد سمي الصائم سائحاً تشبيهاً بالسائح؛ لأن السائح لا زاد معه، والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، ويقولون: خيل صائمة وخيل غير صائمة.

فالفرس الصائم هو الواقف القائم الذي ليس أمامه علف؛ وذلك لأن الفرس يأكل مرتين: مرة في الغدو، ومرة في العشي، فشبه به الآدمي لتسحره وصيامه، فقيل في الآدمي: صائم أو سائح؛ لأنه يأكل مرتين في حالة الصيام: مرة في الفطور ومرة في السحور، ومنه قوله تبارك وتعالى: {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:٥] يعني: صائمات.

وقال ابن عيينة: إنما قيل للصائم: سائح؛ لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح.

قال أبو طالب: وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل وقال الشاعر أيضاً: براً يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحاً يعني: صائماً، وأصل السياحة: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة فيما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح.

فهذا هو القول الأول في تفسير قوله تعالى: (السائحون) أي: بمعنى الصائمون.

وقيل: (السائحون) هم الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ويستدل له بالحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله).

القول الثالث: هم: طلاب العلم الذين يسافرون ويسيحون لطلب الحديث والعلم.

قول رابع: هم المهاجرون في سبيل الله.

القول الخامس: هم الجائلون بأفكارهم في ملكوته سبحانه وتعالى، ويجولون بعقولهم وقلوبهم فيما خلق الله من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه، وفي الحديث: (إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالشاهد هنا قوله: (إن لله ملائكة سياحين) يعني: يتحركون وينتشرون في الطرقات.

يقول القاسمي: ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين، قال الزجاج: هو قول أهل التفسير واللغة جميعاً.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة فهو الصيام.

وعن الحسن: (السائحون) الصائمون شهر رمضان.

وقال الشهاب: استعيرت السياحة للصوم؛ لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر.

ونقل الرازي عن أبي مسلم: أن السائحين هم السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح -أي: سيح الماء الجاري-، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً.

إذاً: المعنى اللغوي للسياحة: هو السير في الأرض، مأخوذ من قوله تعالى في أول هذه السورة: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:٢] أي: انتشروا في الأرض أربعة أشهر، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآيات الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات.

وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون.

وعن عكرمة: أنهم المنتقلون لطلب العلم.

قال ابن كثير: جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهذا حديث حسن.

يقول القاسمي: لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية، لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها؛ لأن الجهاد في سبيل الله كما يطلق على قتال المشركين يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، فمجاهدة النفس تتم أساساً في الجهاد، لكن يطلق أيضاً بصفة أعم على الصوم والهجرة والجهاد.

جهاد للنفس في مفارقة الأوطان والأموال والأهلين، وكذلك الصيام فيه مجاهدة للنفس في ترك شهواتها، وكذلك السفر للتفقه في الدين فيه مجاهدة للنفس، وكذلك السفر للاعتبار والنظر في آثار الأمم المهلكة.

فهذا كله يتطلب مجاهدة للنفس، هذا إذا أردنا أن نوفق بين هذه الأقوال كلها، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، فإن أصل الحقيقة اللغوية للسياحة هي: الضرب في الأرض خاصة، وهذا الذي عبر عنه عكرمة بقوله: المنتقلون لطلب العلم.

وفي هذه الحالة يكون كافياً لو أخذنا بالأصل اللغوي.

إذاً: هناك مسلكان في تفسير (السائحون): الأول: تفسيرها في ضوء قوله: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) بحيث يشمل الجهاد في سبيل الله (القتال) ويشمل كل ما فيه جهاد للنفس، سواء في الصيام أو في طلب العلم، أو في الانتقال لطلب العلم أو في الهجرة، أو بالسير في الأرض للتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، هذا إذا أردنا التوفيق بين ما أثر عن السلف في تفسير (السائحون).

الثاني: تفسير كلمة السائحين بالأصل اللغوي لهذه الكلمة، كما تقول: ساح الماء أو السيل، يعني: انتشر ومشى على وجه الأرض، فيراد بها معنى خاصاً وهو السياحة، التي هي الضرب في الأرض، وهذا يشير إلى وصف عظيم وهو الحق في تأويل الآية الكريمة.

والقاسمي أورد هنا بحثاً لبعض المحققين كما وصفهم في تأييد هذا القول يقول: الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيراً بأن يضحي بقسم وجزءٍ من حياته في السياحة والتسيار؛ لأجل اكتشاف الآثار؛ والوقوف على أخبار الأمم البائدة؛ ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد.

وذلك في قوله تعالى: (السائحون) في هذه الآية، ولم يقع لفظ (السائحون) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع الفذ، فمع ذلك فقد اختلف في معناه أهل التفسير، فمنهم من قال: هم الصائمون، ومنهم من قال: هم السائرون، مأخوذ من السيح والانتشار وهو الجري على وجه الأرض والذهاب فيها، ويطلق السائح على معنىً يضاد الجامد، فالشيء السائح هو سائل مائع منتشر، بخلاف الجامد الذي لا يتحرك.

وألفاظ القرآن يجب حملها على ظواهرها وعلى معانيها الحقيقية ما لم يمنع مانع عقلي، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة، وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو: السائرون الذاهبون في الديار؛ لأجل الوقوف على الآثار، توصلاً للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ.

أما المعنى المجازي فإنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي، وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:١١]، وهذا أمر بالسياحة في الأرض للاعتبار.