للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)]

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:٥٣].

أي: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته، أو ما أبرئ نفسي من الخيانة فإني قد خنت يوسف لما رميته بالذنب، وذلك لما قالت لزوجها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:٢٥] وأودعته السجن ظلماً وعدواناً، فهي تريد أن تعتذر مما كان منها، أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام.

يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام.

وهناك قول آخر: أن القائل: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) هو يوسف؛ لكن القول الأرجح والأليق بالسياق هو نسبة ذلك إلى امرأة العزيز.

ثم يقول: وقد حكاه -أي هذا القول- الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فأفرده بتصنيف على حدة.

ويشير القاسمي هنا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أفرد هذه الآية بالتصنيف؛ للانتصار للقول بأن قائل ذلك هو امرأة العزيز.

ثم يقول: وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف يقول: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه، وهو القول بأن هذا من كلام يوسف عليه السلام، والمعنى: أنه حينما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف أن يخرج حتى تظهر براءته، فكان ما حصل منه من التثبت والتريث والتأني سببه لتعلم براءته، حيث يقول: ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه؛ لأن المعصية خيانة، ثم أكد أمانته بقوله: ((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وسدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:٣٥] فتآمر العزيز وامرأته على أن يسجنا يوسف عليه السلام رغم ظهور الآيات الدالة على براءته.

ثم أراد يوسف عليه السلام أن يتواضع لله ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس قائماً من نفسه، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: ((وما أبرئ نفسي)) أي: لا أنزهها من الزلل ولا أشهد لها بالبراءة بالكلية ولا أزكيها؛ فإن النفس البشرية تأمر بالسوء وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ.

هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف، وأشهر من قال بذلك كما ذكرنا من المفسرين ابن أبي حاتم، وابن جرير الطبري.

قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك، والله تعالى أعلم.

قوله عز وجل: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) ما إعراب بالغيب؟ هي جار ومجرور حال من الفاعل أو من المفعول، أي: حال كوني غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني.

أو (بالغيب) ظرف أي: بمكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.

((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بطريق الأولى، وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم كقوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:٣٠] أي: في قولهم، وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.

قال في الإكليل: إذا كان يوسف عليه السلام هو القائل: ((وما أبرئ نفسي)) فلا شك أن هذه الآية دليل أصلي على التواضع، وكسر النفس وهضمها، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي) فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن رسول الله عليه السلام أولى بكل فضيلة من كل من عداه من الأنبياء والمرسلين.

قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها ثم قال-: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.

وفعلاً مما يؤذي جداً أننا إذا راجعنا كتب التفسير في مثل هذا الموضع، نجد الملفقة والمتكلفين والمتنطعين والقصاصين قد زادوا وأعادوا في تلفيق القصص التي لا مستند لها في هذه المواقف كما ذكروا هنا: أن يوسف عليه السلام لما قال: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) فقال له جبريل: أين ذهب همك بها؟ فرد وقال: ((وما أبرئ نفسي)).

وكل هذا من التلفيق ومن العدوان على مقام أنبياء الله ورسله المعصومين، حتى الآن كل من له تعلق بهذه القصة يقطع بنزاهة يوسف عليه السلام، حتى إبليس نفسه نزه يوسف عليه السلام حينما قال {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:٤٠] فاستثنى المخلصين، والله عز وجل وصف يوسف بأنه من المخلصين بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] أي: من الذين لن يجد الشيطان إليهم سبيلاً، وامرأة العزيز نزهته والنسوة نزهنه، والشاهد الذي شهد نزهه، ومع ذلك لم ينزهه هؤلاء القصاصون الملفقون؛ فينبغي أن يحذر من مثل هذه الروايات الملفقة المصنوعة.

قال الناصر ولقد صدق في التوقيع على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك دأب المبطلة من كل طائفة، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.