للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)]

قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:١].

قوله: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)) دعاء عليه، كما في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:١٧].

وقوله: ((وَتَبَّ)) خبر، فالأولى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) دعاء عليه، والثانية: (وتبَّ) خبر بأن هذا الدعاء قد تحقق في حقه، وهلك فعلاً.

وأبو لهب هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة، وإنما سمي أبا لهب لإشراق وجهه، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشديد البغض والتنقص له.

روى الإمام أحمد بسنده عن رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهلياً فأسلم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.

يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب).

وفي بعض الروايات: (إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء ذو جمة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: يا بني فلان! إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به.

فإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة؛ فلا تسمعوا له ولا تتبعوه.

فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب).

فقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أي: خسر وخاب، وضل عمله وسعيه، (وتبّ) أي: وقد تب، أي: تحققت خسارته وهلاكه.

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: التبُّ هو: القطع، وهذه المادة: (بت) تدور على معنى القطع، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد، التب والتبب والتباب والتبيب والتتبيب: النقص والخسارة، وتبت يداه أي: ضلتا وخسرتا.

إذاً: التباب: الهلاك، ونظيره في القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:٣٧] أي: إلا في هلاك، فـ أبو لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده، وسوء فعاله، كما قال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكت) يعني: في جماع أهله في رمضان، وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:١٠١] يعني: غير خسران، والخسران يؤدي إلى الهلاك والقطع، وفي قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:٦٣].

فظهر من هذا كله: أن معنى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) دائرٌ بين معنى القطع والهلاك والخسران، أما قطعهما فلم يُقدَّر عليه قطع يديه قبل موته، لكن حصل له الهلاك، فقد هلك بالغدة، وقد تخلف عن غزوة بدر بسببها، وأرسل نائباً عنه، ثم هلك بعد ذلك، وأما الخسران فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تبارك وتعالى.

وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن بالهلاك والخسران، فلا بد من حمل قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) على الهلاك والخسران، فلماذا أسند التب لليدين؟!

الجواب

أن ذلك أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية وهو: إطلاق البعض وإرادة الكل، كما في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:١٦]، فالمقصود: صاحبها، وهو الكاذب الخاطئ، لكن حينما يخص الله سبحانه وتعالى الناصية بقوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:١٦] لابد لها من زيادة اختصاص بالمعنى المراد، فالمراد بها الإنسان كله، لكن تخصيص هذا الجزء من بدنه يستلزم زيادة اختصاص بهذا المعنى المراد، وهو أن الكذب يسود الوجه، ويذل الناصية التي هي أشرف شيء في وجه الإنسان، بعكس الصدق الذي يبيض الوجه، ويعز الناصية، ويرفع الرأس، فأسند الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلاً، فالناصية تختص بالكذب أكثر من اختصاص اليد بالكذب، ولما كان الهلاك والخسران غالباً ما يكتسب عن طريق الجوارح، واليد أشد اختصاصاً في ذلك؛ أسند إليها البت؛ لأن اليد أشد الجوارح اختصاصاً بعمل الأشياء وبالكسب، ومما يدل على أن المراد صاحب اليدين، وليس اليدين فقط؛ قوله تعالى: ((وَتَبَّ)) ولم يقل: (وتبتا) لليدين.

إذاً: قوله تعالى: (وتب) المراد: أبو لهب نفسه.

وقوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب) يحتمل أن يكون على سبيل الإخبار أو الإنشاء، لكن لا يوجد إلا احتمال واحد في قوله تعالى: (وتب) وهو أنها للإخبار، ففي تفسيرها نقول: (وتب) أي: وقد هلك، وفي قراءة ابن مسعود: (وقد تب) وهذه القراءة تفسيرية؛ فإنه لابد في إثبات القراءة أن توافق رسم المصحف، فعندما يقال: فلان قرأ الآية كذا، ويزيد كلمة، فالمقصود أنه فسرها، وتكون قراءة تفسيرية.