للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)]

ثم يقول عز وجل: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:١٣١].

في هذه الآية إعلام بأنه تبارك وتعالى أعذر إلى الثقلين الجن والإنس بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتبيين الآيات وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد، وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لم تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة.

إذاً: ينبغي أن نضم هذه الآية إلى آية أخرى في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].

فقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:١٣١] أي أن الله سبحانه وتعالى ما كان له أن يهلك أي قرية أو أي أمة بظلمهم، حتى لو كان هذا الظلم هو الظلم الأكبر وهو الشرك الذي هو الظلم العظيم.

وقوله: (وأهلها غافلون) يعني: لم تقم عليهم الحجة الرسالية، ولم تأتهم رسالة الرسل والأنبياء.

فالله سبحانه وتعالى كتب على نفسه أنه لا يعذب أمة حتى تقوم عليها الحجة وتصل إليها الرسالة، مع أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، والفطرة تهدي إلى التوحيد، فلو أنك تخيلت مولوداً صغيراً يعيش في حجرة مغلقة -بغض النظر عن توفير سبل الحياة كالرضاعة والطعام بصورة أو بأخرى- بدون أن يتصل بأي مخلوق آخر من أم أو أب أو أخ، ويظل منفرداً في حجرة وينمو وينمو إلى أن يشب ويبلغ ويصير مكلفاً فإنه سينطق بالتوحيد، وهذا كل واحد منا يحسه في نفسه؛ لأن أقوى دليل على وجود الله عز وجل وعلى توحيد الله هو الفطرة.

فلا ترهق نفسك إذا سمعت كلام الفلاسفة الدجالين الذين يقولون: إن الشك أول اليقين.

أو: ينبغي أن تبدأ بالشك.

أو نحو هذا الكلام الذي يقوله الدجالون، وغرضهم به هو الصد عن سبيل الله.

فأنت -أيها الإنسان- تولد على الفطرة التي تجعلك تفزع إلى الله سبحانه وتعالى، وتشعر بأنك تأوي إلى الله عز وجل، وتكون هناك صلة وثيقة بينك وبين الله.

وأي واحد منا إذا تذكر أيام صباه الأولى سيجد أن هذا الشعور كان مغروساً في أعمق أعماق قلبه، أي أن الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والفزع إلى الله واللجوء إلى الله في الشدائد شعور فطري مغروس في كل واحد منا لا يحتاج إلى أن يدلل عليه؛ لأنه موجود في قلبه، فالله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، كما قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠] يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تفسدوا فطرة الناس وتصدوهم عن التوحيد.

وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: مهيأً لتقبل الحق.

فأولاد اليهود والنصارى ما لم يكلفوا ولم يبلغوا هم على هذه الفطرة النقية فطرة الإسلام وفطرة التوحيد.

ثم أعطى الله الناس العقول التي ميزوا بها على البهائم وعلى العجماوات كي يتدبروا في آيات الله عز وجل، ثم أرسل إليهم الرسل، وبث لهم الآيات الكونية في كل آفاق الدنيا، وكلها تدلهم على توحيد الله عز وجل فضلاً من الله ومنة، والله عز وجل تكفل بأنه لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، إذ لابد من أن تبلغه حجة الرسل، ولابد من أن تبلغه وتصل إليه دعوة الرسل، فإذا رفضها فحينئذٍ يستحق العذاب.

فهذه الآية فيها دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل، إنما الحكم للشرع والنقل، كقوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].