[تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)]
قال عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:٦] يعني: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، وهذا يكون بعد انقضاء مدة العهد التي هي الأربعة أشهر.
(وإن أحد من المشركين استجارك)؛ لأنك تقدر على قتله، فلو كان لفترة العهد يكون غير وارد أصلاً أن يقتل؛ لوجود عهد، ووجود مدة المهلة التي هي أربعة أشهر؛ لكن الكلام هذا بعد انقضاء الأربعة أشهر، ويمكن أن يكون هذا في المشركين الذين لم يكن لهم عهد، وهم الذين نقضوا العهود وأمر بقتالهم.
فالمعنى: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي: استأمنك، فاستجارك: يعني طلب الجوار والأمان، واستأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجره إلى طلبته (حتى يسمع كلام الله) أي: القرآن الذي تقرأه عليه ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه، فلا تتعرض له، بل لا بد أنك توصله إلى المكان الذي يأمن فيه مثل قبيلته أو بيته أو بلدته، فإذا دخل بيته وداره وأوصلته بأمان فبعد ذلك يمكن أن تقاتله؛ لكن لا بد أن تبلغه إلى المكان الذي يأمن فيه، فانظر إلى عظمة الإسلام، وكيف أنه يحترم العهود حتى مع الكافرين! (ثم أبلغه مأمنه) تقيم عليه الحجة أولاً، وتعلمه القرآن، وتفهمه التوحيد، ثم بعد ذلك إن أجابك فهو مسلم، له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، أما إن أبى فإنه يجب عليك أن توصله إلى مكان الأمان الخاص به إما بيته أو قبيلته التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت بعدما يأمن ويصل إلى مأمنه.
(ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (ذلك) يعني: أن هذا الأمر بالإجارة وبإبلاغه المأمن بسبب (أنهم قوم لا يعلمون) أي: أنهم جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.
وقد دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، فالمشرك إذا طلب منك الأمان وأعطيته الأمان يجب أن تحترم هذا العهد وهذا الأمان ولا تتعرض له بسوء، فمن الغدر أن الإنسان بعدما يؤمن شخصاً يقتله.
ومن قلة الفقه ما سمعناه أن بعض الجنود الأفغان الذين يؤمرون بالخروج في جيوش الشيوعيين، وكان هناك بعض المجاهدين الجهلة الذين لم يكن عندهم فقه، يقول لهم الرجل من هؤلاء: لا إله إلا الله، ويبين لهم أنه مسلم، وأنه أكره على الخروج في حرب المجاهدين ومع ذلك فإنهم -هداهم الله- يقتلونه بمنتهى البساطة! فهذا من الجهل، ونظائر ذلك تحصل كثيراً في أماكن أخرى ولا داعي لأن نفجر الجراح من جديد؛ ولكن من أقسى ما سمعناه ما أذيع بالأمس، ونرجو أن يكون هذا الخبر كاذباً؛ لأنه لا يتصور أن يصدر من مسلم على الإطلاق، وأنا لا أكاد أصدق أن إنساناً عنده دين أو ينتسب إلى الإسلام -حتى لو كان فاسقاً أو شارب خمر- يفعل هذه الأشياء؛ فقد أذيع بالأمس أنه في الجزائر، ومعلوم أن الذي يذيع هذه الأخبار وكالات إعلام وأنباء أجنبية، يحتمل أن تكذب وتقصد بذلك التشهير، أن بعض الشباب المسلم في الجزائر أوقفوا سيارة وانتقوا منها من هم في سن التجنيد شباب، وذبحوهم ذبحاً بالسكاكين! وأرجو أن يكون هذا الكلام كاذباً؛ لأنه ليس من الممكن أن مسلماً يفعل هذا الفعل أبداً بأي صورة، وأن تراق الدماء بهذه الطريقة.
إذا كان الله سبحانه يضع للمشرك نفسه هذه الحرمة أنه إذا استأمنك فإنك تؤمنه، فما بالك بما يحصل الآن؟! وأنا أستبعد أن يوجد من الإسلاميين في الجزائر من يصل جهله إلى هذا الحد، أشياء مؤلمة جداً نسمعها؛ ولكن الذي يخفف عنا أن بعض من يتبع المخابرات الحكومية في الجزائر هرب إلى فرنسا، وأعلن هناك في الجرائد أنه أكره على أن يقوم بقتل بعض المدنيين، ثم يدَّعون بعد ذلك أن المسلمين هم الذين قتلوا هؤلاء، فلعل هذا هو الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان يستريح، وأن تكون يد المسلمين نظيفة من مثل هذه الحماقات وهذا التجرؤ على حرمات المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فكيف بلا إله إلا الله؟!) كما في قصة أسامة بن زيد.
الوصية الأبدية التي نوصي بها أنفسنا وكل أخ: إياك وإراقة دم مسلم بغير حق، إياك وإراقة الدماء، فإن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، أما إذا أراق دماً حراماً فهذه من الورطات التي لا يكاد يوجد مخرج لمن أوقع نفسه فيها، فالإنسان يجبن عند دماء المسلم، مهما يكن الأمر لا يتأول ولا يجترئ على هذه الحرمات المقطوع بحرمتها، والمحرمة يقيناً، فلا ينبغي أن تزول هذه الحرمة إلا بيقين مثله.
أما ما يحصل من المهاترات والجهل، جهل هؤلاء الناس بالفقه وبحدود الله سبحانه وتعالى، فإنهم يسيئون من حيث يزعمون الإحسان، فحرمات المسلمين ليست بهذه الخفة وبهذه الحقارة حتى تنتهك بهذه الصورة التي نشهدها.
يقول القاسمي: دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة؛ ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر، فروى البخاري في تاريخه والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً)، لأن هذا غدر، والمسلم لا يغدر.
وروى أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)، وقال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء الرسالة أو التجارة أو طلب صلح، أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
يعني: أن أي كافر حتى لو كان المسلمون في حالة حرب مع دولة كافرة -وهذا كلام أهل الفقه وأهل السير والجهاد- فدخل الكافر بعهد وبأمان إلى بلاد المسلمين، فيجب على جميع المسلمين أن يحترموا العهد، أعرف أن هذا الكلام قد يصدم عواطف كثير من الناس؛ لكن المسألة ليست بأمانيكم، وليست بعواطفنا؛ لكنها حدود الله سبحانه وتعالى، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: أنه ينبغي ما دام دخل بعهد وبأمان أن يحترم هذا المعاهد ولا يتعرض له بسوء إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه؛ لأن التعرض لشخص أعزل ليست بطولة، ليست بطولة أن الإنسان يتعرض لرجل أعزل ما معه سلاح وما دخل ليقاتل، دخل لسبب من الأسباب بغض النظر عن هذا السبب، فلا يقتل ما دام أنه قد أمّن، وفي هذا العصر الأمان يعتبر: (الفيزة) والتأشيرة، فهذا يعتبر عهد أمان، وكما ينبغي أن يفعل ذلك في ديارنا، فنحن أيضاً لا نخلو من مئات وآلاف المسلمين يذهبون إلى بلاد هؤلاء الكفار للأمان، فهل نقبل أن المسلم يدخل بلادهم بأمان ثم ينقض عهده وأمانه ويتعرض له بسوء في داخل بلادهم؟! فنفس الشيء إذا دخل الكافر بلاد المسلمين بعهد وبأمان فلا ينبغي أن ينقض عهده، وسبق أن نبهنا على هذا المعنى في مناسبة سابقة.
يقول ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
وقال القاسمي: وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، يعني: لا يعطى العهد إلا لشخص نأمن أنه يريد الخداع والمكر؛ لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله: (حتى يسمع كلام الله) لكن لو شككنا في أن أحداً يتجسس، فهذا أصلاً لا يعطى الأمان، والذي يعطي الأمان الآن هي السفارات والقنصليات كما تعلمون.
وقال: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله لإقامة الحجة عليه، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن كلام الله بحرف وصوت قديمين وهم الحنابلة ومن وافقهم كـ العضد، قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق (حتى يسمع كلام الله) فالذي يسمع كلام الله المشرك، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام الله هو هذه الحروف والأصوات، وهنا خطأ مطبعي، يبدو أن كلام القاسمي هو: فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات، فأعتقد أن كلمة (ليس) هذه غير صحيحة.
والقول: بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله: كلام الله، إلا لها، وقد اعترف الرازي -مع أنه أشعري- بقوة هذا لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤] بسط لهذه المسألة.
التنبيه الأخير: يقول الرازي دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال؛ وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب ألا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنة؛ علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل؛ فلهذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال: (فأجره حتى يسمع كلام الله) وتقوم عليه الحجة وتصله البراهين، كما أن النقاش مع الكافر أو دعوته إلى الإسلام لا يشمل دخول: أسلم وإلا أقتلك، لكن إن استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، فيعطى فرصة ليفهم، وليس هذا فحسب، بل وتبلغه مأمنه.