تفسير قوله تعالى:(إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين)
قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}[البينة:٦].
قرئت: البريّة، وقرئت: البريئة أي: شر من برأه الله سبحانه وتعالى وخلقه، فأكثر العرب وأكثر القراء على ترك الهمز، أي: البرية؛ لكثرة ما جرت على الألسنة، وهي فاعلة بمعنى مفعولة من برأ الله الخلق فهي بريئة، أي: مخلوقة من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد:٢٢].
فهذه الآية تضمنت أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها، وأنهم شر البرية، ومن البرية: الدواب والطيور، فاللفظ هنا على العموم.
ومفهوم الآية أن هؤلاء شر الخليقة كلها، أي: أنهم شر من الحيوانات والدواب؛ لأنها تدخل في البرية، وهذا ما صرح به القرآن في موضع آخر فقال عز وجل:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:٢٢]، وقال تبارك وتعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:٢٣]، فبان بذلك أن المراد بهم الكفار، وقال:{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الزخرف:٤٠]، فهل الدواب في ضلال مبين؟ لا، ليست الدواب في ضلال مبين، بل إن الكفار في ضلال مبين.
وأما الدواب فتؤمن بوحدانية الله، فهدهد سليمان عليه السلام أنكر شرك بلقيس وقومها فقال:{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}[النمل:٢٢ - ٢٣]، ثم يقول:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:٢٤] إلى آخر الآية، فالهدهد فاهم لقضية التوحيد فهماً عميقاً كما في هذه السورة.
وفي الحديث في فضل يوم الجمعة:(وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة)، فهذا خبر الصادق المصدوق، والكفار ليس لديهم من ذلك خبر، فلذلك فإن الدواب أفضل منهم كما قال تعالى:{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف:١٧٩].
وفي الآخرة لما يجمع الله سبحانه وتعالى جميع الدواب فيقتص للعجماء من القرناء، ويقول لها: كوني تراباً، فحينئذ يتمنى الكافر لو أنه كان مثلها، وهيهات أن يحصل مثل ذلك، قال تعالى:{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}[النبأ:٤٠] فالدواب لم تعمل خيراً حتى تجازى عليه، ولم تعمل شراً لتعاقب عليه، فالدواب خرجت من الدنيا لا لها ولا عليها، إلا ما كان فيما بينها، فإذا نطحت ذات القرن التي بدون قرن فإنه يقتص من بعضها البعض، ثم تكون نهايتها وعودتها إلى منبتها، وهو التراب، بخلاف الكافر فإن عليه حساب وعقاب المخالفة، فيعاقب بالخلود في النار، فكان بذلك شر البرية.