[الجهة الأولى: علم البيان في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)]
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجازم النافذ في تكوين المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وعدماً، ولمشيئته تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته.
لا شك أنه لا ينبغي القول بأن القرآن فيه مجاز، لأنه لا مانع على الإطلاق أن الله سبحانه وتعالى يخلق في الأرض إدراكاً بحيث تخاطب، كما في هذا الموضع: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) ما المانع أن يخاطب الله الأرض فتمتثل حقيقة هذا الأمر؟! وكذلك قوله: ((ويا سماء أقلعي))، وقد قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١]، ما الذي يمنع أن يكون القول حقيقياً، وأن تكون الإجابة منهما أيضاً حقيقية.
يقول: كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصور مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته، كان المشار إليه مقدماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز المرسل عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض!) (ويا سماء!).
ثم قال كما ترى: (يا أرض!) (ويا سماء!) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لمرور الماء في الأرض البلع: (ابلعي ماءك) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء.
ثم قال: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، يعني: كأن الأرض تملك هذا الماء.
واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل فعله للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً: ((ويا سماء أقلعي)) بمثلما تقدم في ((ابلعي)) ثم قال: ((وغيض الماء)) فلم يصرح بمن غاض الماء.
((وقضي الأمر)): ولم يصرح أيضاً بمن قضي عليه الأمر، ومن سوى السفينة.
((وقيل بعداً)) كما لم يصرح بقائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) في صدر الآية.
سلك في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، بمعنى: أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائلاً: (يا أرض!) (ويا سماء!).
هذه حقيقة مقررة لا تحتاج لبيانها وتوضيحها؛ لأنه لا يتصور أن يقدر على هذه الأفعال إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:٤٤].
فهو قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم أن يكون غيره -جلت عظمته- هو قائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) ولا غائض مثلما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره، ثم ختم الكلام بالتعريض بالدعاء على قوم نوح بالهلاك: ((وقيل بعداً للقوم الظالمين)) تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم، وإظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.