[أنواع المقادير التي يقدرها الله سبحانه وتعالى]
باختصار شديد نلفت النظر إلى هذه المسألة -نظراً لأهمية مدارسة العقيدة وبالذات قضية القضاء والقدر- فإن الآية مما يستدل بها على إحدى مراتب المقادير؛ لأن التقدير أنواع: فمنه التقدير الأزلي حينما أمر الله سبحانه وتعالى القلم بأن يكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة).
ومنه: التقدير الذي كان حينما استخرج من صلب آدم عليه السلام الذرية وقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار).
ومنه: التقدير الحولي الذي هو التقدير السنوي ودليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:٣ - ٤]، ففي ليلة القدر في كل سنة تتم كتابة المقادير من هذه السنة إلى السنة التي تليها، وما الذي سيحصل في هذا الوجود خلال هذه السنة.
وهذا التقدير ليس بجديد بل هو موافق دائماً لما أثبت في اللوح المحفوظ، مطابقاً لعلم الله سبحانه وتعالى السابق، ولكن تعاد كتابته، أو يكتب من جديد موافقاً لما سبق، وليس فيه أي تغيير.
فإذاً: هناك التقدير الأزلي وهو تقدير أصلي عند خلق القلم.
ثم التقدير حينما استخرج الله سبحانه وتعالى من صلب آدم الذرية.
وهناك التقدير الحولي كل سنة، ودليله قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وليست ليلة النصف من شعبان وإنما ليلة القدر، بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، ونفهمها من ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١]، فهذه تفسر تلك.
ثم هناك التقدير اليومي، ودليله هذه الآية: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فكل يوم يكتب فيه تقدير للأشياء التي سوف تحصل في هذا اليوم، فهو يبديها وليس يبتديها، تكشف هذه الأحكام وليس إنشاء لها من جديد؛ لأنها سبقت في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي.
وهناك مرحلة أخرى من التقدير وهي التقدير العمري والجنين في بطن أمه، حيث يأتي الملك فيؤمر بنفخ الروح، ويؤمر بكتب أربعة أشياء، فيقول: (أي ربي ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟)، فهذا يكتب في هذه اللحظة أو في هذا الوقت بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الجنين موافقاً لما سبق، وموافقاً أيضاً لما سيأتي في أنواع التقادير الأخرى كما ذكرنا، إذاً: فهذه الآية من آيات القدر ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وهي دليل على التقدير اليومي.
قال مجاهد: يعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً.
وقوله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: مما أجاب به سؤالكما، فأنتم تسألون الله وما أكثر ما سألتم الله سبحانه وتعالى بلسان الحال أو بلسان المقال فأجاب سؤالكم ودعاءكم وآتاكم من فضله، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)): أراد في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر: الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة.
فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب.
وقيل المراد بذلك: الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر، والشأن في اللغة: الخطب العظيم، والجمع: الشئون.
والمراد بالشأن ها هنا الجمع ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فهو مفرد لكن يراد به الجمع كقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:٦٧]، يعني: أطفالاً.
وقال الكلبي: شأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمقادير التي سبق بها القلم تساق في كل يوم إلى المواقيت، أي: الزمان الذي حدده الله كي يموت فلان أو يمرض فلان، أو يرزق فلان، أو ينصر فلان وهكذا.
وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)): من شأنه أن يميت حياً، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً.
وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد، فانصرف كئيباً إلى منزله، فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه، فقال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، يعني: أن هذه كلها من أفعال الربوبية ومن مقتضياتها، وهي من أدلة حدوث العالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث فيه، وهذه المخلوقات تخضع لما يشاء الله سبحانه وتعالى فيها، فأي جبار مهما طغى وتجبر لا يستطيع أن يرد قضاء الله سبحانه وتعالى إذا نزل به، وأي سفاح من السفاحين كرئيس الجمهورية العربية السورية، الذي دك بلدة حماة على المسلمين، وانتهكت الأعراض، واستبيحت الأموال، وقتل عشرة آلاف مسلم في يوم أو في يومين، فهذا السفاح انظر إلى نهايته، كيف أنه خضع للموت ولم يملك الاعتراض على ملك الموت الذي أتى لقبض روحه، بل إنه خضع لما أراده الله سبحانه وتعالى به.
((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) فهذا الشأن هو الذي يحدث الله فيه ما يشاء في خلقه مما يقضيه ويقدره بهم.
فلما قال هذا الغلام للأمير: شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، يعني: كل ما يحدث في العالم من أمور وأحداث يشاءها الله سبحانه وتعالى فالله هو الذي يدبرها، فهناك إرادة وهناك قوة هي قوة الله سبحانه وتعالى تغير أحوال هذا العالم من حال إلى حال، في حين أن الكفار يعتقدون -حتى الذي يعتقد أن هناك إلهاً- أن الله سبحانه وتعالى خلق العالم ثم حركه ثم تركه ونسي العالم، فليست هناك محاكمة ولا شريعة ولا حلال وحرام؛ لأنه خلق العالم وحركه ثم تركه!! كلا، بل العالم وكل هذه الموجودات لا غنى لها عن الله طرفة عين، ولا يمكن أن تستغني عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين وإلا فسد كل ما في هذا الوجود ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافىً ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً.
فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام.
فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا داخل في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فقد غير حالي وغير حال الوزير، أي: حين خلع ثياب الوزير التي هي ثياب الوزارة وكساها لهذا الغلام، فقال له: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا نموذج من نماذج أن الله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، يحدث في خلقه ما يشاء من الأفعال.
وعن عبد الله بن طاهر أنه دعى الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:٣١]، وقد صح أن الندم توبة.
وقوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩]، فما بال الأضعاف.
يعني: الإشكال الأول: وهو أنه قد صح الحديث (أن الندم توبة) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:٣١]، والسياق في ذم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فإذا كان أصبح من النادمين فكيف يعذب؟ وتعرفون الحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فإذا كان سياق الآية واضحاً في ذم قابيل مع أنه ندم، وكان الندم توبة فلماذا يعذب؟! فقال له الحسين بن الفضل: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركها فيها الأمم.
وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على أنه لم يحمل جثة أخيه لكي يواريها في التراب {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:٣١]، أي: على أنه لم يدفن أخاه، وليس من النادمين على المعصية نفسها، والله تعالى أعلم.
وأما الإشكال الثاني في قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا كان القلم قد جرى بكل ما يكون إلى يوم القيامة، فكيف أنه كل يوم هو في شأن، أي: تقدر أشياء كل يوم؟ فقال له: أما قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها، فانظر إلى فصاحة العلماء ووجازة كلامهم المبارك، فقوله: (شئون يبديها) يعني: يخرج إلى حيز الوجود ما علمه الله من قبل، فما كان غيباً يخرج علمه للشهادة في وقته الذي حدده الله سبحانه وتعالى، فـ ((كل يوم هو في شأن)) أي: أن هناك تقديراً عما سيحصل في كل يوم لهذه المخلوقات، وهذا لا يتعارض على الإطلاق مع ما كتب في اللوح المحفوظ، فهي شئون يبديها ويكشفها وليست شئون يبتديها، فهذا العلم ليس علماً مستأنفاً وليس علماً محدثاً وإنما هو موافق لعلم الله سبحانه وتعالى.
وأما الإشكال الثال