[تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)]
قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٥٧].
بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى شأن هذه الولاية، وكيف أنه يتولى عباده المؤمنين فيخرجهم من الظلمات؛ شرع تبارك وتعالى في ذكر نماذج من هدايته للمؤمنين، وتوليه عباده وأنبياءه بالنصرة والحجة والبرهان على مناوئيهم، فبدأ أولاً بذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود، فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨]، فهذا أنموذج لولاية الله عز وجل لأوليائه بالنصرة والتأييد والحجة والبرهان.
قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ))، هذه ألف التوكيد، وهي في الكلام بمعنى التعجب أي: اعجبوا من هذا الذي (حاج إبراهيم في ربه) أي: جادل إبراهيم في ربه.
((أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)) يعني: لأن الله آتاه الملك، فحمله بطره بنعمة الله على ذلك، وهو الملك الكافر نمرود، ولا شك أن في هذا التعبير إشارة إلى أن الملك فتنة على من أوتيه؛ ((أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ))، فبدل أن يحمد الله سبحانه وتعالى حملته هذه النعمة لما آتاه الله الملك على المحاجة في الله، وهذا أقبح وجوه الكفر في موضع ما يجب عليه من الشكر، كما تقول في شخص: عاداني فلان لأني أحسنت إليه! تريد أنه فعل عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان الذي صار إليه، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:٨٢]، أهذا شكر نعمي ورزقي عليكم أنكم تكذبون بآياتي وبرسلي؟! وهذا من نفس هذا الباب، قال تبارك وتعالى هنا: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ))، فمع أن الله آتاه الملك، وأنعم عليه به، إلا أنه أبدل النعمة كفراناً وبطراً وكبراً.
(إذْ) بدل من (حاجّ): ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ)) يعني: لما قال له النمرود: من ربك هذا الذي تدعونا إليه؟ ((قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)) يعني: يخلق الحياة والموت في الأجساد، كان المقصود بقوله هنا: (يحيي ويميت)، نفخ الروح في الجسم، وإخراجها منه بإذن الله تبارك وتعالى، فقال النمرود: ((قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) يعني: بالقتل والعفو، ودعا برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فظن أن هذا يعطيه حقاً أنه يحيي ويميت! فلما رآه إبراهيم عليه السلام غبياً لا يفهم ولا يعقل ولا يعرف أصول المناظرة، قال إبراهيم: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ))، فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أوضح منها، فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).
فهذا الطاغية سلك مسلك التلبيس والتمويه؛ وهذا يدل على جهله، ويتضح من الآيات: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه بالإحياء والإماتة قال: ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ))، لكن الإحياء والإماتة أمر له حقيقة وله مجاز، وإبراهيم عليه السلام قصد الحقيقة، بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدخل الروح في البدن فيحييها أو ينزعها منه ويخرجها فيميتها، فإبراهيم ما أراد إلا الحقيقة، أما النمرود فإنه فزع إلى المجاز وموه على قومه ((قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) يقول: إني إذا أتيت برجلين فأقتل هذا فأكون أنا الذي قد أمته، وأعفو عن هذا، فأكون قد أحييته.
فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وليس معنى ذلك أن إبراهيم عليه السلام ما استطاع أن يبطل حجته، إلا أنه لما رآه غبياً لا يعقل ولا يفهم انتقل إلى ما لا يستطيع أبداً أن يموه به على العوام، وانتقل معه من الخصام إلى أمر لا يحتمل إلا الحقيقة، ولا مجاز فيه على الإطلاق، فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)).
فلما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوازه من الجلاء -الظهور- بحيث لا يخفى على أحد؛ لأن هذا الجواب الذي أجاب به هذا النمرود واضح في بطلانه بحيث لا يحتاج إلى جهد في إبطاله، فبطلانه يغني عن إبطاله، وسقوطه يغني عن إسقاطه، فما انشغل بالجواب عنه؛ لأن هذا تمويه حيث يقول: أنا أحيي وأميت بهذا المعنى، فكان التصدي لإسقاط كلامه من قبيل السعي في تحصيل الحاصل؛ لذلك انتقل إبراهيم عليه السلام إرسالاً لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج المكابرة أو المشاغبة أو التلبيس على العوام.
فقال إبراهيم عليه السلام: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا)) أنت ((مِنَ الْمَغْرِبِ))، ولا شك أن من قدرته تبارك وتعالى أنه لا تقوم الساعة حتى يأتي الله سبحانه وتعالى بالشمس من المغرب، فهذه من علامات الساعة الكبرى، أن تطلع الشمس من المغرب؛ لأن الله وحده هو الذي يقدر على ذلك تبارك وتعالى.
((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))، لما قال له: فائت بها من المغرب، يعني: إذا كنت كما تدعي تحيي وتميت، فالذي يحيى ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته، وفي تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فائت بها من المغرب: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))، تحير ودهش وأرغم بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا.
((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) بالكفر إلى محجة الاحتجاج، أي: أن الله لا يهديهم إلى إقامة الحجة وإلى فهم الحجج والبراهين، وما يحتج به، فلا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:١٦].