[تفسير قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)]
ثم بين تبارك وتعالى أن نصرهم يوم بدر مع قلتهم كان بحوله تعالى وقوته، فقال عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:١٧].
قوله: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)) أي: بقوتكم.
يعني: ما وقع من النصر يوم بدر مع قلتكم ليس بفعلكم أنتم.
وقوله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) يعني: سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنكم الفزع والجزع.
وقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ))، يعني: أنت يا خاتم النبيين مَا رَمَيْتَ، أي: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، ((إِذْ رَمَيْتَ)) بالحصباء؛ لأنك أتيت بالسبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من الحصباء وألقاه وقال: (شاهت الوجوه)، فابتداء الرمي هو من فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ بدليل أن الله نسب إليه الرمي فقال: ((إِذْ رَمَيْتَ))، لكن هذه كانت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الإلقاء من كف واحدة ليس من شأنه في العادة أن يصل إلى عيون الكفار واحداً واحداً؛ فالله هو الذي أوصل هذه الحصباء إلى عين كل واحد منهم، فأشغله بنفسه.
فهذه معجزة كانت من فعل الله سبحانه وتعالى في الحقيقة، وإن كان تسبب بها ابتداءً النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ))، يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، فالرمي المنفي غير الرمي المثبت، فالرمي المنفي هو نفي إيصاله إلى وجوه المشركين؛ لأن هذا النوع من الرمي الذي أدى إلى وصول الحصباء إلى عيون المشركين واحداً واحداً هو فعل الله تعالى، وهو المراد بقوله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)).
وأما رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو رمي مثبت ذو حدود، أما الرمي المنفي عن الرسول فإنه من فعل الله سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت بالحصباء؛ لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، ولذا قال سبحانه: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))، يعني: بلغ في إيصال ذلك إليهم؛ ليقهرهم.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: أي: ما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم، وقد روى غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، أي: أن يكونوا صادقين في الحملة على المشركين عقب هذه الرمية مباشرة، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، فانهزموا.
يقول الجشمي: تدل الآية على أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، فما دام الذي أعان ومكن هو الله سبحانه وتعالى، فينسب الفعل إلى الله عز وجل؛ إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))، ولذلك يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه، وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر صارت أقوى، فلذلك قال: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ))؛ لأن الله هو الذي أعانكم على قتلهم؛ سبحانه وتعالى.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة.
وهذا غلط من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع، ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال؛ لأنه لا يقال في لغة العرب: رمى، إلا إذا حصل أنه ضرب بالسهم، والسهم أصاب الهدف، ولا تطلق كلمة الرمي على الحذف الذي لا يترتب عليه الإصابة، يعني: قبل الإصابة لا يطلق عليه رمياً، إنما يطلق العرب الرمي على أن يوجه السهم أو الضربة وأن تصيب، فإن لم تصب فلا يطلق عليه رمي، ولذلك قال تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))، فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ)) يعني: ما وصلت وبلغت، وقوله: ((إِذْ رَمَيْتَ)) أي: حذفت.
وقوله تعالى: ((وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ)) أي: ليمنحهم من فضله ((بَلاءً حَسَنًا))، أي: منحاً جميلاً بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه سبحانه وتعالى ويشكروه.
وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))، أي: سميع لدعائهم واستغاثتهم، عليم بمن يستحق النصر والغلب.