[تفسير قول الله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله)]
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:٤].
(قل أرأيتم ما تدعون) أي: تعبدون.
(من دون الله) من الأوثان والأنداد التي تعبدونها.
(أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات)، أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضي بالاستقلال، أو في شيء سماوي بالشركة؛ حتى تستحق العبادة، فقوله: (ماذا خلقوا من الأرض) يريد به على سبيل الاستقلال بخلقه.
(أم لهم شرك في السماوات)، هل خلقوا شيئاً سماوياً بالشركة حتى يستحقوا العبادة؟! (ائتوني بكتاب من قبل هذا)، أي: من قبل هذا القرآن، وهذا تيئيس لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تيئيسم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فالدليل العقلي في قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)، ائتوني بدليل عقلي على أنهم خلقوا فيستحقون أن يعبدوا.
(اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، وهذا تعجيز لهم بطلب دليل نقلي مما أثر في الكتب السابقة، {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:٤]، أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم.
(أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، أو بقية من علم بقيت لكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة.
(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم؛ فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها.
والمفسرون في هذا الموضع عند قوله تعالى: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، يتعرضون إلى الكلام في قضية الخط في الرمل، ويشيرون إلى حديث رواه مسلم في صحيحه: (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)، وهذه القضية شغلت العلماء كثيراً وتكلموا فيها كثيراً، وممن تكلم فيها: الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي المتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة من الهجرة في رسالة له بعنوان: الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط، لما روي في ذلك من أحاديث ووجه تأويلها، وهو وإن لم يصحح الحديث فالحديث صحيح ثابت في صحيح مسلم، وإنما قال بفرض صحته فإنه يجاب عنه بكذا وكذا، وذكر بعض التأويلات، وقد أجاد في ذكر هذه التأويلات التي لابد منها بعدما بين أن الله سبحانه وتعالى كذب مدعي علم الغيب، وأنه لا يظهر أحداً على غيبه، فقال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:٢٦ - ٢٧]، وغير ذلك من الآيات.
وهذه إشارة موجزة بحيث من قرأ منكم ذلك في بعض كتب التفسير يعلم أن العلماء قاموا بتأويل هذا الحديث حتى وإن صح سنده، فقد تأولوه على أن ذلك كان آية خاصة بهذا النبي بالذات، وأن هذه كانت علامة خاصة به وليس لأحد أن يدعي علم الغيب عن طريق ذلك.