[تفسير قوله تبارك وتعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها)]
قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:١٢٣].
قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل وغمط الحق كذلك قد جعلنا مثل هذا في كل قرية أرسلنا إليها الرسل، فجعلنا أكابرها مجرمين، وكانوا متصفين بصفات المذكورين، وكانوا مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليفعلوا المكر على أتباعهم بالتلبيس ليتركوا متابعة الرسل، فغاية مكرهم هو أن يصدوا الناس عن اتباع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وأكابر المجرمين هم أهل الترف، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:٣٤] وقال تبارك وتعالى مبيناً أن أكابر المجرمين هم أهل الترف: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣] وقال تبارك وتعالى مبيناً هذا المكر وحاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} [نوح:٢٢ - ٢٣] إلى آخر الآية الكريمة.
قال ابن كثير: المراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، ليزينوا لهم هذا الباطل الذي هم عليه، وكانوا يزخرفون لهم أفانين القول، كما قال عز وجل إخباراً عن قوم نوح: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:٢٢]، وكقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} [سبأ:٣١ - ٣٣] أي: مكركم بنا بالليل والنهار.
وهذا يبين أن مكرهم مكر متصل في الليل والنهار، فكانوا يزخرفون لهم القول ويلبسون عليهم كي يصدوهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ)) في إعراب (أكابر مجرميها) قولان: الأول: أن (أكابر) مضاف إلى مجرميها، فـ (أكابر): مضاف، و (مجرميها) مضاف إليه، وعليه فيكون (أكابر) مفعولاً أول لـ (جعل) وأما المفعول الثاني فهو الجار والمجرور في قوله تعالى: ((فِي كُلِّ قَرْيَةٍ)) أي: وكذلك جعلنا أكابر المجرمين في كل قرية.
فهذا هو القول الأول في إعراب (أكابر مجرميها).
القول الثاني: أن (مجرميها) مفعول أول، و (أكابر) مفعول ثانٍ، والتقدير: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، و (أكابر) تُمنع من الصرف، فسبب عدم وجود التنوين في الإعراب الأول هو الإضافة، وفي الإعراب الثاني المنع من الصرف، والأكابر جمع الأكبر.
قال الزمخشري: خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، وهم الذين يحرضون الناس ويقودونهم إلى الضلال، بجانب أنهم غالباً الأقدر على الفساد، فهم الموجود عندهم القدرة، والمتمكنون من نشر الفساد في الناس، وهم الماكرون بالناس كافة، كما قال عز وجل: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:١٦].
وقوله: ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) يعني: لا يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيط بهم، كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:١٣] وقال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:٢٥].
قال الزمخشري: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم.
وقوله: ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) يعني أن هذا الكيد والمكر يرتد في نحورهم؛ لأنهم حتى لو مرت بهم الدنيا دون عقاب فإنهم في الآخرة يتحملون أوزار كل من أضلوهم عن سبيل الله، يعني أن أصحاب الأوزار لا يتحملون أوزارهم وحدهم، لكن كل من أضلوهم عن سبيل الله يحملون من أوزارهم.