[النطق أشرف ما خص الله به الإنسان]
وقال الأصفهاني في الذريعة: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان يعني: مما يتميز به أنه حيوان ناطق، لا يوجد غير الإنسان من الحيوانات ناطق، وما عدا ذلك قد ينطق على سبيل التقليد دون أن يعي ما يقول، حتى الببغاء يجيد ترداد الكلام، لكنه لا يعي الكلام ولا يفهمه، إنما عنده القدرة على محاكاة أصوات يسمعها دون أن يعيها أو يفهمها، فالإنسان حيوان ناطق ميزه الله سبحانه وتعالى بهذه النعمة، بل شرفه بهذه النعمة وهي نعمة البيان.
يقول: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان، فإنه صورته المعقولة التي باين بها سائر الحيوان، قال الله عز وجل في بيان تشريف الإنسان بهذا الشرف: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ولم يقل: خلق الإنسان وعلمه البيان، إذ جعل قوله: ((علمه)) تفسيراً لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))؛ تنبيهاً أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق الحيوانات، لكن لما خلا من حرف العطف فهمنا أن قوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} هي تفسير لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))، يعني: خلقه مبيناً ناطقاً مميزاً.
فهذا تنبيه على أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعاً لكانت الإنسانية أقل درجة مما شرفها الله به.
ولذلك قيل: لولا اللسان ما الإنسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة.
يعني: منظر وشكل فقط كشبح، لكن البيان هو الذي رفعه وشرفه، ولذلك يتفاوت الناس ببيانهم، فإذا سكت الناس فإنهم يتساوون، لكن إذا أفصحوا وبينوا ظهر حينئذ تفاوتهم في علمهم وفي ذكائهم وفي فصاحتهم، وغير ذلك من الصفات التي يتفاوت الناس فيها.
وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا نطق كشف نفسه.
وقال الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم إشارة إلى أن الإنسان قلب ولسان، واللسان يعرب عما في هذا القلب، وما عدا ذلك صورة اللحم والدم.
فإذا توهم في ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد حرم من أمرين: النطق فلا يستطيع أن يبين ولا أن يتكلم، وفي نفس الوقت القلب أو الفؤاد الذي يفقه به ويفهم ويميز، فإذا تخيلنا أن هذا الإنسان بدون نطق وبدون بيان وبدون عقل أو قلب، لم يبق إلا صورة اللحم والدم، فيتساوى مع سائر العجماوات.
فإذا كان الإنسان هو اللسان، فلا شك أن من كان أكثر منه حظاً فهو أكثر منه إنسانية، والصمت من حيث هو مذموم؛ لأنه من صفات الجمادات فضلاً عن الحيوانات، وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتاً بلا ترتيب.
إذاً: لا يستطيع أي مخلوق آخر أن يبين ويتكلم كما فعل الله ذلك في الإنسان.
ومن مدح الصمت فإنما مدح الصمت بالنسبة له؛ لأنه إذا تكلم نطق بشر أو بسوء فالصمت أفضل، مثل قول أحدهم: الصمت أزين للفتى من منطق في غير حينه وكما يقولون: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، هل هذه الكلمة صحيحة؟ لا؛ لأن الإنسان ربما ينطق بكلام هو أثمن من الذهب، وربما ينطق بكلام سيئ فيكون الصمت أفضل منه، فهي مسألة نسبية، فإذا مدح الصمت فذلك مقارنة بالكلام القبيح؛ لأنه إذا صمت فهو على سبيل السلامة لا غنم ولا غرم، لكن إذا نطق بالسوء فهو الغرم، فإذا كان الإنسان مخيراً بين صمت ونطق بالشر فالأولى أن يصمت، أما إذا كان مخيراً بين الصمت والنطق بالخير فالأولى أن ينطق، وقد يجب ويتعين عليه ذلك.
سئل حكيم عن فضلهما، فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق.
وسئل آخر: أيهما أفضل؟ فقال: الصمت عن الخنى أفضل من الكلام في الخطأ.
وعنه أخذ الشاعر: الصمت أليق بالفتى من منطق في غير حينه حكى الشهاب أنه يجوز أن يكون (الرحمن) خبراً لمبتدأ محذوف، يعني: كأن المبتدأ يكون الله، والرحمن خبر، وما بعده مستأنف بتعديد نعمه.
قوله: ((علم)) من التعليم، ومفعوله مقدر أي: علم الإنسان أو جبريل أو محمداً صلى الله عليه وسلم.