[تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)]
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:١٨٧] (الرفث) بمعنى: الإفضاء، والإفضاء يعدى بإلى، أما الرفث فيعدى بالباء، يقال: رفث بالمرأة، لكن لأن الرفث هنا بمعنى الإفضاء عداه بإلى فقال: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) يعني: بالجماع.
والرفث أصله قول الفحش، قال الله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧]، وكنى به هنا عن الجماع، وسنة الله سبحانه وتعالى التكنية عما يستقبح ذكره صريحاً كقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:١٨٩]، وكقوله تبارك وتعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:٢٢٣].
((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ))، نزل نسخاً لما كان في صدر الإسلام من تحريمه، وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء أو إذا نام قبل ذلك، فقد كان الإنسان إذا تعشى يحرم عليه بعد ذلك المفطرات بقية الليل، أو إذا نام قبل أن يتعشى فلا يحل له أن يأتي شيئاً من المفطرات أيضاً في الليل، كما حصل لـ قيس بن صرمة فغشي عليه نصف النهار من الجوع إذ تأخرت امرأته في تحصيل الطعام وغابت عنه ساعات، فلما رجعت وهو نائم قالت له: خيبة لك! فصام اليوم الثاني ولم يكن قد أفطر في اليوم السابق ولا تسحر، فغشي عليه في نصف النهار، رواه البخاري.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} هذا كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه، يقول الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء.
فالمفروض أن الزوج يستر امرأته وهي أيضاً تستره، فكل منهما لباس بمعنى أنه يستر الآخر كما أن الملابس تستر البدن، فكل منهما ينبغي أن يكون ستراً للآخر، فلا يكشف عيبه، ولا يفشي سره، ولا يظهر أي عيب فيه، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوءة، وعلى ذلك كني عن المرأة بالإزار، فوصفت بأنها إزار الرجل لأنها تستره.
وأيضاً سمي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه من تعاطي القبيح، والمحصن أحياناً يأتي بمعنى المتزوج.
إذاً: المعنى: (هن لباس لكم) يعني: أنتم تسترونهن وهن يسترنكم، وهذا ألطف من قول بعضهم: شبه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في الضم باللباس المشتمل على لابسه.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع قوله: ((هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ))؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، يعني: أشار بهذا التعبير إلى الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أحل لهم الرفث إلى النساء في ليالي رمضان بعد أن كان قد حرم عليهم؛ لأنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذلك رخص لكم في مباشرتهن، ولذلك قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}، اختيان النفس هو نزوعها إلى رغبتها، ومنه قولهم: خانته رجلاه، إذا لم يقدر على المشي.
أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحل لكم ذلك، علم الله أنه إذا لم يبح لكم هذا فإنكم كنتم سوف تختانون أنفسكم، فأحله رحمة بكم ولطفاً.
وفي الاختيان وجه آخر وهو أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بتعريضها للعقاب لو لم يحل ذلك لكم، قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة، ففيه زيادة وشدة.
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام، وقد وقع ذلك لـ عمر وغيره كما رواه أحمد وابن أبي حاتم بسند حسن وغيرهم، واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا صح هذا فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فيكون المعنى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يبح لكم ذلك، لشدة ومشقة ذلك عليكم.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: قبل توبتكم.
{وَعَفَا عَنْكُمْ} يعني: إذ أحل لكم إتيانهن.
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} أي: جامعوهن.
{وَابْتَغُوا} هذا الأمر على الإباحة ليس على الإيجاب؛ لأنه سبقه حظر، ومعنى (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا.