للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً)

قال تعالى: فقد انتهينا في تفسير سورة الأنعام إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:١٠٩] * {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:١١٠] بعدما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم اجتهادهم في الأيمان بقوله: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)) بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وأكده فقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:١١١].

قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) يعني: فرأوهم عياناً، أي أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة، ولن نجيبهم فقط إلى آية واحدة يطلبونها، لكن سنأتيهم بجملة كبيرة من الآيات، ومنها أن ننزل إليهم ملائكة، كما قال تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:٢١].

وحكى عنهم أن من اقتراحاتهم الطويلة أنهم قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:٩٢].

فيقول تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) يعني: بإحيائنا إياهم.

أي: نحيي الموتى فيكلمونهم.

كما قالوا: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:٣٦].

وقوله: (وحشرنا عليهم) أي: جمعنا (كل شيء) سواء من الحيوانات أو النباتات أو الجمادات، أو كل شيء من الآيات التي اقترحوها.

وقوله: (قبلاً) أي: مقابلة وعياناً حتى يواجهوهم قبلاً كما يكون الشيء في قبل الشيء، أي: في مقابلته في مواجهة ورؤية عينية حتى تحصل المواجهة، أو أن (قبلاً) جمع قبيل، وهو الكفيل والضمين.

فقوله: (وحشرنا عليهم كل شيء) يعني: كل شيء اقترحوه أو سألوه من الآيات، أو كل شيء من الحيوانات والنباتات والجمادات.

(قبلاً) أي: كفلاء، جمع كفيل، أي: بصحة ما بشروا به وأنذروا، بحيث تأتي هذه الأشياء كلها من النباتات والحيوانات والجمادات وينطقها الله سبحانه وتعالى، وتضمن لهم وتشهد بصحة ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البشارة والنذارة، فتضمن لهم صدق هذه الأخبار، وتنطق لهم بذلك (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) أي: ما كانوا ليؤمنوا لغلوهم في التمرد والطغيان.

وقوله: (إلا أن يشاء الله) يعني: إلا أن يشاء الله إيمانهم فيؤمنوا.

وقوله: (ولكن أكثرهم يجهلون) يعني أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون، أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات.

قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري، والإيمان لا يكون إلا بالقلب، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] وهنا تنبيهان: الأول: يقرأ قوله تعالى: (وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً) بضم القاف والباء، وعلى هذه القراءة يكون لقوله: (قُبُلاً) وجهان: أحدهما: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل وضمين.

والقول الآخر أنه مفرد، كقبل الإنسان ودبره، وعلى كلا الوجهين هو حال من (كل).

ويقرأ -أيضاً- بالضم وسكون الباء، فبدلاً من أن نقول: (قُبُلاً) بضم الباء نقول: (قُبْلاً) بتسكين الباء.

ويقرأ -أيضاً- بكسر القاف وفتح الباء (قِبلاً) منصوباً على أنه ظرف، كقولهم: لي قَبِلَ فلان حق.

أي: عند فلان حق، أو أنه نصب على الحالية، وهو مصدر، أي: عياناً ومشاهدة.

فمعنى (قبلاً): أي: مقابلة وعياناً.

وهناك شاهد من القرآن الكريم على أن كلمة (قبل) تأتي بمعنى المشاهدة أو المعاينة، وهو قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:٢٦] يعني: من أمام.

وقوله: (إلا أن يشاء الله) هذا الجزء من الآية حجة واضحة على المعتزلة، بدلالة أن جميع الأشياء بمشيئة الله تبارك وتعالى، حتى الإيمان والكفر، وقد اتفق سلف هذه الأمة على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية على مشيئة القصر والاضطرار، وإنما يتم لهم ذلك لو كان القرآن يتبع الآراء، فلو كان القرآن تابعاً لآرائهم وبدعهم لتم لهم هذا الاستدلال، بمعنى أنهم يحاولون تحريف آيات الله سبحانه وتعالى وتأويلها بما يوافق بدعتهم، فيجعلون بدعتهم وزبالة آرائهم هي الأصل، ثم بعد ذلك يحرفون معاني القرآن حتى توافق بدعتهم، فيجعلون معاني القرآن والسنة فرعاً على الأصول التي ابتدعوها، وإذا كان القرآن هو القدوة وهو المتبوع فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فإلى النار، وما بعد الحق إلا الضلال.

ولذلك قال تعالى هنا: (إلا أن يشاء الله) فهذه الآية مما يدحض حجج المعتزلة، فإن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكل شيء يجري في الكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.