[تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)]
قال تبارك وتعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥].
قوله: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) يعني: إذا كان آخرهم قد قطع فما بالك بأولهم؟! وهذا -كما يقولون- كناية عن الاستئصال، فإذا كان آخرهم قضي عليه فبالأولى أولهم، فقوله: (فقطع دابر) أي: آخر (القوم الذين ظلموا)، فهو كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله، وهو من (دبر دبره) إذا تبعه فكان في دبره، أي: خلفه، فالدابر هو ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه أنه دابر تجوزاً، وقال أبو عبيد: دابر القوم: آخرهم.
وقال الأصمعي: الدابر الأصل، ومنه (قطع الله دابره)، أي: أصله.
وقوله: (والحمد لله رب العالمين) أي: على ما جرى عليهم من الهلاك، فلا شك في أن هذا العقاب وهذا العدل من الله سبحانه وتعالى من الصفات التي يتمدح بها الله سبحانه وتعالى، ويُحمد الله عليها، فانتقامه من الطغاة والظالمين بعد الإنذار وبعد الاعذار وبعد إقامة الحجة والتذكير من عدله.
وقوله: (والحمد لله رب العالمين)، على ما جرى على هؤلاء الظالمين من الهلاك، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحمد الله عليها، لاسيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم عليهم السلام.
وقد روي في هذه الآية أخبار وآثار، منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:٤٤]).
إذاً: هذا يؤيد لك المعنى الذي ذكرنا، وهو أن بعض الجهلة المغرقون في الجهالة بالله سبحانه وتعالى وسننه وأيامه عندهم أموال، ونسمع من المفسدين في الأرض أو الفاسقين أنهم يقولون: ربنا يحبنا.
ويقول أحدهم: كنت سأهلك في الحادثة، لكن الله يحبني؛ لأنه أعطاني مالاً أو كذا وكذا.
فهو يستدل بفضل الله عليه أنه نجاه من هلكة على أن الله يحبه، وهذا ليس دليلاً على أن الله يحبك، ولكن انظر إلى حالك، فإن كنت مستقيماً على طاعة الله فيمكن أن تكون هناك أمارة مخيلة أن الله يحبك، أما إن كنت عاتياً متمرداً ظالماً باغياًَ تاركاً للصلاة، لا تذكر الله سبحانه وتعالى، وتهجر القرآن، وترتكب غير ذلك من الجرائم والفسوق والعصيان ثم تزعم أن الله يحبك فاعلم أن هذا استدراج، فما أكثر ما نسمع: إن ربنا يحبني؛ لأني نجوت من الحادثة الفلانية.
وما أدراك؟! فانظر إلى حالك حتى تعلم هل يحبك الله أم لا؟ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، والله لا يحب الظالمين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الفجار، إنما يحب من يحب الله ويحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فيقول الرسول عليه السلام: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استداج)، يعني: بالرغم من أنه مستمر على المعاصي ومتمادٍ فيها يعطيه الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تكون كهؤلاء المغفلين الذين يظنون أن هذا علامة محبة من الله، فهذا هو تشخيص الرسول عليه السلام لهذه الحالة، فإنه يشخصها بأنها استدراج، ثم أكد المعنى بالاستدلال بهذه الآية (فلما نسوا ما ذكروا به).
وهؤلاء الذين يتكلم الله عنهم هم الذين قال في شأنهم من قبل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٣ - ٤٤] أي: مع حصول البأساء لم يتضرعوا.
ولذا قال: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٤٣] فمن تزيين الشيطان أن هؤلاء المساكين يقولون: إن ربنا يحبنا، ولذلك صنع بنا كذا وكذا.
يقول تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)) أي: لما لم يجد معهم التذكير بالبأساء والضراء، وما نفعتهم المواعظ زاد الله سبحانه وتعالى في فتنتهم.
وقوله: ((فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) تأمل كلمة (كل شيء) في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٤ - ٤٥].
فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم)، أي: إذا أراد أن يقطع دابرهم ويستأصلهم فتح عليهم باب خيانة، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:٤٤].
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له) يعني أن هذا إنسان غير عاقل، وليس عنده عقل ولا رأي حسن، قال: (ومن قتِّر عليه ولم ير أنه ينظر له فلا رأي له).
فإذا كان الله كتب عليك ضيق الرزق فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يرى أن هذا هو الذي يصلحك، وأنه لو فتح عليك في المال والرزق لفسدت، وكثير من الناس كذلك.
إذاً: فوِّض أمرك إلى الله، فهو أدرى بما يصلحك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فأنت لا تدري بالعواقب، ولا تدري بالذي يصلح دينك، فقد يفسد دينك الفقر فيعطيك المال، وقد يفسد دينك الغنى فيحجب عنك المال؛ لأن هذا هو الذي يصلحك، وهذا مشاهد في كثير من الناس، فإنهم يفسدون إذا جرى المال في أيديهم، وكثير من الناس يفسد دينه إذا لم يجر المال في يده، فالله سبحانه وتعالى أدرى بما يصلح العبد، فيجب عليك أن ترضى بما قسم الله لك، وترى في تقتير وتضييق الرزق أن هذا أفضل لك وخير لك؛ لأن هذا اختيار الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تفوِّض الأمر إلى الله.
فالحسن يقول: كما يقول الحسن: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له).
فلابد من أن تخاف من أن هذا مكر من الله سبحانه وتعالى، وأن هذا استدراج لهذه الآية ونظائرها.
وفي الحالة الأخرى (من قتر عليه ولم ير أنه ينظر له) وأن هذه مصلحته، وأن هذا هو الخير في حقه فلا رأي له، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:٤٤]، قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم.
يتركهم حتى يفرحوا بالزينة وبالدنيا كي يتحسروا عند فراقها أشد الحسرة، وهذا استدراج، كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:٢٤] أي: كأن لم يكن لها وجود من قبل.
ولذا قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله؛ فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
وقال الرازي: قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥]: هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة.
إذاً: على الإنسان إذا رأى هلاك الظلمة أن يحمد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله بذلك يكون قد أراح البلاد والعباد من هؤلاء الظالمين.
وختم الله قصص ما مضى من أحوال هؤلاء المهلكين فقال عز وجل: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥]، فهو يستحق الحمد على أنه أهلك هؤلاء الذين عتوا وتجبروا، وفي هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأن هذا من أجل النعم وأجزل القسم، فهو إخبار بمعنى الأمر تعليماً للعباد.
فـ الزمخشري يذهب إلى أن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] معناه: فاحمدوا الله رب العالمين.
أي: أنه أمر جاء في سياق الخبر، كما في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:١٧] فقد جاء في بعض التفاسير أن المعنى: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون.
وكذلك تكون الآية هنا -على قول الزمخشري -: فاحمدوا الله رب العالمين على إهلاك الظلمة.
قال ابن عقيل في (الانتصاف): ونظيرها قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [النمل:٥٩] أي