[تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين وجاءوا بسحر عظيم)]
قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:١١٥ - ١١٦].
كان السحرة كفاراً، لكنهم هنا تأدبوا مع موسى عليه السلام، وقد نفعهم هذا الأدب حتى قال القرطبي رحمه الله تعالى: تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم، ((قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)) أي: أن نكون نحن أول من ألقى، كما في الآية الأخرى.
قيل: خيروا موسى إظهاراً للجلادة فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره، وقال الزمخشري: تخييرهم إياه أدب حسن، وهذا من المجاملة، فإنهم التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع.
((قَالَ أَلْقُوا)) أي: قال موسى لهم: ألقوا يعني: ألقوا ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً.
يقول ابن زيد: كان الاجتماع بالإسكندرية، فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة، يعني كانت الحية ضخمة جداً، ولا أدري بالضبط ماذا يقصد بالبحيرة إذا صح هذا الكلام.
((فلما ألقوا سحروا أعين الناس)) أي: خيلوا لها ما ليس في الواقع، إذاً ما ألقوه من الحبال هي في الحقيقة بقيت كما هي! وإنما السحر أثر على أبصارهم؛ ولذلك قال عز وجل هنا: ((سحروا أعين الناس)) لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي أو يؤثر في المرئي، فهذه الآية تدل على أن هذا النوع من السحر كان مما يؤثر في عين الرائي، فيرى الشيء على خلاف ما هو عليه.
((واسترهبوهم)) يعني: أفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما قال في الآية الأخرى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٦ - ٦٩].
ومثل هذه الآية لا يصح الاستدلال بها على نفي تأثير السحر؛ لأن السحر أنواع كثيرة ولا ينحصر في نوع واحد، فسواء كان السحر هنا نوعاً من الحيل بحيث إنهم وضعوا في الحبال أو في التجويف زئبقاً، والزئبق جعل هذه الحبال تلتوي، أو أن السحر إنما كان بالأعين، وهذا هو الأكيد قطعاً بنص القرآن.
فالاستدلال على نفي السحر بمثل هذه الآية استدلال بها على غير وجهها، فيستدل بعض الناس على نفي السحر وأنه مجرد تخييل، بأن هذا السحر إنما كان في أعين الناس، {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:١١٦] أي: عظيم في باب السحر وفي مجال السحر، فمن رآه عده سحراً عظيماً، فإنه ألقى كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين.
قال الجشمي: تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، بما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر، وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله، وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وليس ذلك في وسع طبيب، وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به.