[ذكر ما نقله القاسمي في معنى: (ومن الأرض مثلهن)]
نقل القاسمي عن بعض علماء الفلك قوله: أما كون الأرضين سبعاً كالسماوات فهو أمر نجهله ولا نفهمه، إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً هو -كما يظهر لنا- وهم من أوهام القدماء! مما يؤلم أن القاسمي في الأجزاء الأخيرة من تفسيره ينسب كثيراً من الآراء التي فيها نظر إلى مجهول، ولا يبين من القائل، وكثير منها يكون مأخوذاً من كلام الشيخ محمد عبده أو أحد أهل مدرسته، كما نقل ما ذكرنا هنا.
ولا يشترط أن نفهم كل شيء؛ لأن هناك أموراً مغيبة عنا، وهناك أموراً يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فلا نلجأ إلى أن نتكلف علمها، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما قرأ سورة عبس وقف عند قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:٣١] فقال: الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر! مع أن كلمة (الأب) يسهل الرجوع إلى معناها في لغة العرب، وهو يفهم من السياق، قال سبحانه: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:٣١ - ٣٢] أي: الفاكهة متاع لكم، والأب متاع لأنعامكم، فالمقصود أنه مما تأكله الأنعام، أما تتبع ما وراء ذلك فسماه عمر رضي الله عنه تكلفاً.
وإذا كنا نفهم التفاصيل فذلك لا يبيح لنا أن نقطع بترجيح معين في مثل هذه المواضع.
أما قول هذا الذي نقل عنه القاسمي: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً، هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء.
فهذا كلام سخيف، ولا ينبغي أن يذكر، كيف يقول: هذا وهم من أوهام القدماء، مع أنه ليس لديه دليل قاطع على أن المقصود المثلية في العدد أم المثلية في الخلق، فهذه الآية لا يستطاع القطع فيها بمعنى معين، فكيف نقطع بنفي العدد؟! لكن نكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر يكون مجهولاً كسائر الأمور المغيبة التي نجهلها، وجهلنا بها لا يبيح لنا تأويلها تأويلاً فاسداً على غير علم؛ فكلام هذا الذي يسميه بعض علماء الفلك لا ينبغي أن يذكر في تفسير كلام الله تبارك وتعالى! ثم يقول: ولذلك لم يرد في القرآن الكريم لفظ الأرض مجموعاً.
ونقول: لكنه ورد في السنة، فهذا الكلام نشم منه رائحة مدرسة محمد عبده، ففيها إهمال السنة إلا ما تواتر منها بشروط اخترعتها هذه المدرسة العقلية المنحرفة.
فنقول: قد ورد في السنة قوله: (طوقه من سبع أرضين).
ثم يقول: ولم يرد فيه مطلقاً أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع مراراً عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد، وإنما ورد قوله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع، وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً.
كذا قال، مع أنها قد تفيد ذلك، فالأمر محتمل؛ لأن الله قال: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، والعلماء المنصفون -كما أشرنا في بداية الكلام- قالوا: الأمر يحتمل عدة احتمالات: فيحتمل أنها طبقات بعضها فوق بعض كطبقات البصل، ويحتمل أن هذه المثلية في العدد، وهي أقاليم مفصولة عن بعضها بالبحار، ويحتمل أنها مثلهن في الخلقة فقط، أي مخلوقة من نفس المادة، أو في أصل كونها مخلوقة لله تبارك وتعالى.
إذاً: ليس لدينا ما نقطع به في المقصود، فقوله: وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً.
ليس كما ادعى.
من المؤلم أن القاسمي رحمه الله تعالى ينقل مثل هذا النقل الطويل عن مجهول، لماذا لا يصرح باسمه؟! فهذا فيه مؤاخذة على القاسمي رحمه الله تعالى، وكنا نحب أن نعرف من هذا الذي يتكلم؟ وما قدره من العلم؟ وما مدرسته التي ينتمي إليها؟ وهذا من حق القارئ؛ فلو أن رجلاً له موقف سيئ من السنة فنحن نحذر منه ونحذر من تآليفه، فينبغي للمؤلف أن ينسب الكلام إلى قارئه، وهذا من بركة العلم.
ثم قال هذا القائل المجهول: ولنا في تفسيرها وجهان.
-وهذان الوجهان اللذان ذكرهما مقبولان، وكلاهما محتمل لا على سبيل القطع.
قال: إما أن تكون (من) في قوله تعالى: ((وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) زائدة، وإما أن تكون غير زائدة، فـ (من) لو قلنا إنها مزيدة للتوكيد فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن.
وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه.
أي أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وهذا من دلائل صدق القرآن، فيحتمل أن الأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها إلى آخره.
وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى.
هذا كلامه، وليس عندنا دليل على أن الكواكب الأخرى مسكونة بحيوانات، وتكلف الكلام في مثل هذا هو من التنطع الذي لا يجوز، وليس لنا أن نتكلم في الغيب بلا علم.
قال: وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات متماثلة من جميع الوجوه.
يلاحظ في تفسيره أنه يعتبر السماوات السبع هي الكواكب السيارة! ومن قال: إن السماوات السبع هي الكواكب السيارة فقد أخطأ، فإن كل ما نراه حولنا من الكواكب قال الله سبحانه وتعالى فيها: {وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:٥ - ٦] فالكواكب هذه كلها في السماء الدنيا، فكيف يقول: إن السماوات السبع هي هذه الكواكب؟! إذا كانت سماء الدنيا مزينة بالكواكب فهذا يدل على أن هذه الكواكب ليست هي السماوات السبع، ولا يجوز إخضاع القرآن الحكيم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى لتأويلات مبنية على نظريات علماء الفلك الذين تتغير علومهم من وقت إلى آخر، وتنهار نظريات وتنشأ نظريات أخرى، فلا ينبغي ربط كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأمور متغيرة ونظريات متبدلة.
يقول: وكلها مخلوقة من مادة واحدة وعلى طريقة واحدة، يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:٣٠] يعني كانت شيئاً واحداً، (ففتقناهما) أي: فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماماً.
هذا هو الوجه الأول المبني على أن (من) زائدة.
الوجه الثاني: أن (من) غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات، وخلق من الأرض أرضاً مثلهن، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي فلان صديق مثلهم، أي مثلهم في الصداقة، والمعنى: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها، وعليه فليس في القرآن الكريم أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون.
انتهى كلام هذا الذي نقل عنه القاسمي رحمه الله تعالى.
وذكر ابن الأثير في المثل السائر في النوع السادس في اختلاف سير الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه ما مثاله: وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً ولم يرد مجموعاً، كلفظة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن الكريم، ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة في ((وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) لم يقل والأرضين مثلهن، وإنما قال: (ومن الأرض مثلهن) بالنصب عطفاً على (سبع) وبالرفع على الابتداء، وخبره يكون (من الأرض).