[الجهة الثانية: علم المعاني في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)]
قال: أما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة.
المقام هنا مقام إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، فيناسب أن تنادى الأرض والسماء بنداء البعيد: (يا أرض!) (ويا سماء!) فمقام العظمة يستدعي وجود البعد بين مرتبة الخالق الآمر والمخلوق الذي يؤمر هنا.
قال: وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرضي بالإضافة؛ لإبداء التهاون.
يعني: لو أنه قال: يا أرضي ابلعي ماءك، فمثل هذه الإضافة يكون فيها تكريم للأرض وتشريف، لكنه قال: (يا أرض ابلعي ماءك) لإبداء التهاون، فترك هذه النسبة.
ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام.
واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها؛ لكونها أخف وأدوم، دون سائر أسمائها.
أي: كالغبراء أو المقلة من أسماء الأرض؛ لكنه استعمل لفظة الأرض.
واختير لفظ السماء بمثلما تقدم في الأرض.
أي: لم يقل: الخضراء أو المظلة أو غير ذلك من أسماء السماء، مع قصد المطابقة؛ لأنها في مقابلة الأرض.
واختير لفظ: (ابلعي) على ابتلعي؛ لكونه أقصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي).
((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، وإنما لم يقل: ابلعي بدون المفعول؛ لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء؛ لأنه ممكن أن الأرض تبتلع الجبال وتبتلع التلال وتبتلع البحار، لكن قال: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)).
ثم بيَّن المراد واختصر الكلام مع أقلعي: ((ويا سماء أقلعي)) ولا يحتاج هنا إلى أن يذكر أقلعي عن الماء؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه.
وهو الوجه في أن ((قيل يا أرض ابلعي ماءك)) فبلعت ((ويا سماء أقلعي)) فأقلعت.
واختير غيض على غيّض المشدد لكونه أقصر.
وقيل: ((وغيض الماء)) ولم يقل: وغيض ماء طوفان السماء.
وقيل: ((وقضى الأمر)) دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاقتصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.
وقيل: ((واستوت على الجودي)) ولم يقل: سويت على الجودي؛ بمعنى: أقرت على الجودي.
وقيل: وغيض وقضي بالبناء للمفعول اعتباراً ببناء الفعل للفاعل مع السفينة، في قوله: ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ))، فلما جاء ذكر السفينة بني الفعل للمعلوم فناسب أن يقول هنا: ((واستوت)) ولم يقل: وسويت على الجودي جرياً على السياق الذي جرى من قبل وهو قوله: ((وهي تجري بهم في موج)) مع قصد الاختصار في اللفظ.
ثم قال: ((وقيل بعداً للقوم)) ولم يقل: ليبعد القوم؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بعداً) وحده منزلة ليبعدوا بعداً، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع بعداً الدال على معنى أن البعد لصيق بهم وحق له؛ لأنه لو قال: ليبعد القوم لما ظهرت اللام.
((الظالمين)) هنا أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل.
هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلمة والألفاظ، وأما من حيث النظر إلى تركيب الجمل فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر: ((وقيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي)) ولم يقل: ابلعي يا أرض! ولم يقل: أقلعي يا سماء! جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليمكن الأمر الوارد عقبه في نفس المنادى.
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي))؛ لأن الطوفان ابتدأ من الأرض، وبنزولها منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى.
ثم أتبعهما قوله: ((وغيض الماء)) لاتصاله بقصة الماء، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: ((وقضي الأمر)) أي: بإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: ((واستوت على الجودي))، ثم ختمت القصة بما ختمت وهو التعريض الذي سبق بيانه.
هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.