للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال المفسرين في أصحاب الأخدود]

روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها.

وقال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالاً ونساء فخدوا لهم أخدوداً، ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار.

وقال مجاهد: كان الأخدود شقوقاً بنجران، كانوا يعذبون فيها الناس.

وتفصيل النبأ: أن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العارية عن شوائب الإلحاد لما دخلت بلاد اليمن، وآمن كثير من أهلها كانت في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران، وكان أقام عليها ملك الحبشة أميراً من قبله نصرانياً مثله، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على إزالة السلطة النصرانية من اليمن والإيقاع بمن تنصر بغضاً في المسيحية.

والحقيقة أن كلمة المسيحية كلمة غير صحيحة؛ لأن المسيحية ليست مثل الناصرية والماركسية بمعنى أن ينسب المذهب إلى مؤسسه، بل المسيح لم يؤسس دعوة المسيحية وإنما جاء بالإسلام، يقول عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] فجميع الأنبياء دعوتهم هي دعوة الإسلام، لكن اشتهرت دعوة المسيح بأنها النصرانية، وهناك نصرانية حقة ونصرانية مزيفة.

إذاً: فكلمة المسيحية ما ينبغي التساهل فيها، إنما هي النصرانية، فينبغي أن تقول: فلان نصراني ولا تنسبه إلى المسيح؛ لأن المسيح بريء منه، كالذين ينتسبون إلى علي وما هم بعلويين، بل هؤلاء أعداء لـ علي وهو يتبرأ منهم.

فالشاهد أن القاسمي أتى من كتب هؤلاء بقصة معروفة عند النصارى بخبر أراكا ورفقته، ويرادفونها بعام (٥٢٤م) من تاريخهم، والله تعالى أعلم.

وهؤلاء الذين عذبوا في الأخدود كانوا قطعاً مسلمين بشهادة القرآن الكريم.

يقول الحافظ ابن كثير: وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي رضي الله عنه أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم فامتنع عليه علماؤهم فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم، واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.

وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها.

وعنه: أنهم كانوا من أهل الحبشة، واحدهم حبشي.

وعن ابن عباس: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:٤ - ٥] قال: ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه.

وقيل غير ذلك.

وروى الإمام مسلم والإمام أحمد رحمهما الله تعالى عن صهيب رضي الله عنه، وهذا الحديث لا نستطيع القطع بأنه مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويوجد احتمال أنه قصة حكاها صهيب الذي كان رومياً، وعنده علم من أخبار النصارى، فيحتمل أن يكون من كلام صهيب، ويحتمل أن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلاماً لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر.

قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، فمضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني! أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.

فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم -أي: بإذن الله-، وكان للملك جليس فعمي فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان! من الذي رد عليك بصرك؟ فقال: ربي.

فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله.

قال: أولك رب غيري؟! قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني! بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟! قال: ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله، فأخذه بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتي بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه -يعني دحرجوه- فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت! فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.

فبعث به مع نفر في قرقور -والقرقور: سفينة صغيرة-، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله.

ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي.

قال: وما هو؟! قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.

ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.

فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟! فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم! فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي -وهو أحد الأطفال الرضع الذين نطقوا-: اصبري يا أماه! فإنك على الحق) وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح إلى آخره.

يقول الحافظ ابن كثير: وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله تعالى أعلم.