للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا)]

قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا) أي: اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة، وتكثير الأنبياء من نسله، وإعطاء الخلة، وإظهار المناسك، وجعل بيته آمناً ذا آيات بينات إلى يوم القيامة، وكل هذه وجوه اصطفاء الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم أبي الأنبياء عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

وما وجه هذا الاصطفاء بالرسالة؟ جعله من أولي العزم من الرسل، وبالنبوة، وبالإمامة فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:١٢٤]، وكان إبراهيم عليه السلام إمام لجميع الناس، وكل أهل الملل يتحرون أن ينتسبوا إلى إبراهيم عليه السلام، وأكثر الأنبياء من نسله، بل كل الأنبياء الذين أتوا بعده هم من نسله، سواء في ذلك الأنبياء الذين من نسل إسحاق ويعقوب، أو من نسل إسماعيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أعطاه الله الخلة، واتخذه الله سبحانه وتعالى خليلاً: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:١٢٥].

أما في الآخرة يقول تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:١٣٠] الذين لهم الدرجات العلى، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح؛ لأن هذا يدل على شرف وصف الإنسان بأنه إنسان صالح أو عبد صالح، لماذا؟ لأنه تعالى بين أن مقام إبراهيم عليه السلام المفخم المعظم في الآخرة إنما هو بكونه من الصالحين؛ فحيث جعل الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام متصفاً بالصلاح فهو حقيق بالإمامة لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين، فأعطاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا أعلى المراتب؛ فلا بد أن تكون رتبة الصالحين التي جعلها أيضاً لإبراهيم في الآخرة هي أفخم المراتب وأعلاها، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه والاهتداء بهديه، وفي هذا أيضاً أشد ذم لمن خالفه، كل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم، وإقامة للحجة عليهم؛ لأن أكثر ذلك معطوف على قوله تعالى: (اذكروا) في قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٤٧].

فهذا تذكير، وما زلنا في سياق الكلام الذي يذكر الله سبحانه وتعالى ويعظ به بني إسرائيل وأهل الكتاب لما عندهم من أمر هذا النبي الكريم إبراهيم الخليل عليه السلام، ولما ذكر إمامته عليه السلام ذكر ما يؤتم به فيه، فإذا كان إبراهيم إماماً وإمامته شرفته بهذه الفضائل في الدنيا وفي الآخرة، ففي أي شيء نأتم بإبراهيم عليه السلام؟ وما الذي ينبغي أن نأتم بإبراهيم به حتى نحوز مثلما حاز في الدنيا والآخرة؟ وما هو سبب اصطفائه وصلاحه؟ الذي نأتم به فيه هو دينه وملته وما أوصى به بنيه، وما أوصى به بنيه سلفاً عن خلف، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه؛ لأن يعقوب عليه السلام ينتسب أهل الكتاب إليه، وهو إسرائيل عليه السلام.