الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، وعلم أن قوماً صائرون إلى الشقاء، وقوماً صائرون إلى السعادة، كما قال تعالى:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[الشورى:٧]، وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبساً، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق له في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرتهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء، فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير:٢٩]، وقال:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:١٤٩].
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه: أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية فرقاً ضرورياً، لا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون وفقأت عينه -مثلاً- وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور، ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك، قائلاً: إن هذا بإرادتك ومشيئتك، مع سبق الإصرار والترصد.
ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية أن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته: أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله فيما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك: أنك لو قلت للقدري الذي ينفي القدر السابق: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا بمحل كذا وفي وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك، وتصير علم الله جهلاً بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟! والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير:٢٩]، وقال تعالى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:١٤٩]، ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعاً مختاراً غير مقهور ولا مجبور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير:٢٩].
والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا، وهي أن عبد الجبار المعتزلي قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، يريد أن يقول: إن المعاصي مثل السرقة والزنا لا تقع بمشيئة الله؛ لأنه في زعمه يريد أن ينزه أن تكون هذه الرذائل بمشيئة الله، فهم يريدون نفي القدر السابق تنزيهاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا تقع المعاصي بمشيئته، فلما قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، قال له أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال -أي: أبو إسحاق - رداً عليه: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه، فأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن منعك حقاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل.
فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.
ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار هو معنى قوله تعالى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام:١٤٩].
وذكر بعضهم: أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت، وطلب منه أن يدعو الله أن يردها إليه، فقال عمرو ما معناه: اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها؛ لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا، فقال الأعرابي: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث؛ فإن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه.