[تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم)]
قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:٥٤].
قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ كقوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:٤٨]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:١٠].
((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: ما أنت بملوم ولن نحاسبك لأنهم أعرضوا، إنما أنت تؤدي ما عليك: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:٩٩]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢١ - ٢٢].
((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: لست مسئولاً عن استجابتهم، إنما أنت مسئول عن البيان والبلاغ، ففي هذه العبارة أوضح رد على ما تفوه به بعض المفسرين المعاصرين وأحسبه الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى، حيث يقول: إن الهدف والغاية من بعث الرسل هو إقامة الحكومة الإسلامية.
فبعض الكتاب تصدر منهم تعبيرات مرفوضة، فنحن فقط ننكرها من باب النصيحة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنهم في ذلك، فكان من تعبير بعض هؤلاء الكتاب ومن يسمونهم مفكرين: أن بعض الرسل فشلوا في إقامة الحكومة الإسلامية والبعض الآخر نجح، فنسبة الفشل لبعض الأنبياء هذا شيء فظيع وشيء عجيب! والذي يوضح ويظهر بطلان هذه النظرية وهذا الكلام هذه الآية: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) والرسول ما عليه إلا البلاغ وقد أدى ما عليه، أما أن الرسول يحاسب ويلام لأن قومه لم يستجيبوا له فلا؛ لأنه لا يملك قلوب الناس، ولا يملك هداية القلوب، إذ هداية القلوب فقط بيد الله سبحانه وتعالى، فلذلك قال سبحانه: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: قد أديت ما عليك، وجاء في الحديث: (أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد) لم يستجب له أحد، فهل يطلق على هذا أنه نبي فاشل والعياذ بالله؟! وهل النبي أصلاً يوصف بالفشل؟! فهذا من جراء إطلاق بعض الأدباء العنان لأقلامهم، فيأتون بمثل هذه العبارات السخيفة؛ بسبب عدم معرفتهم لقضية التوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى، وما ينبغي أن ينسب إلى الله وما ينبغي أن ينزه الله عنه، كذلك تنزيه الرسل والأنبياء عن أمثال هذه العبارات الفضيعة التي جرت على ألسنتهم.
فمعرفة وإتقان هذه الضوابط أمر مهم جداً.
فلا يطلق أبداً على النبي أنه فشل -والعياذ بالله- في إقامة حكومة إسلامية؛ لأن الغاية والهدف من إرسال الرسل هو تعبيد الناس لربهم سبحانه وتعالى.
يقول العلامة النسفي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة اللوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه أدى الأمانة ونصح الأمة، وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:٤٠].
يقول القاسمي: وقول بعض المفسرين: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: فأعرض عن مجادلتهم بعدما كررت عليهم الدعوة، يقول: هذا بعيد عن المعنى بمراحل؛ لأن مجادلتهم مما كان مأموراً به على المدى.
قلنا في تفسير قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ فقط، أي: ليس أعرض عن مجادلتهم وعن إقامة الحجة عليهم وعن دعوتهم فهذا تفسير غير صحيح وإنما الصحيح: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ، لكن فيما يتعلق بوظيفة الدعوة لابد أن يستمر في إقامة الحجة، ولذلك قلنا: إن هذه الآية يفسرها قوله: ((وَدَعْ أَذَاهُمْ))، وقوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، وقوله: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)) ثم قال بعدها: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) أي: عليك هداية البيان والتوضيح وإقامة الأدلة، لكن هداية القلوب للحق هذه لا يملكها إلا الله، وهي التي قال الله فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦]، وقال الله تعالى فيها: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:١٧].
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام كان مكلفاً بهداية البلاغ والبيان على الوجه الأكمل؛ لأن المجادلة والمناقشة وإظهار الحجة وإبطال كلام أعداء التوحيد هو العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:٥٢]، وقد قلنا من قبل: إن المسلمين لا يمكن أن ينهزموا في مناظرة أو في مناقشة علمية نزيهة، فلأهل الحق الظهور على الإطلاق، وإذا حصل ظهور من الكفار فليس ظهور حجة وإنما هو ظهور قهر وكبت وتشنيع وشغب بالشبهات وغير هذه الأشياء، لكن بظهور حجة لا يمكن أن يحصل هذا، لأن الحجة ظاهرة على الإطلاق، فظهور أهل السنة والجماعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين).
إذاً: أدلة الحق هي أوضح من الشمس ولا ينكرها إلا مطموس البصيرة، ولا يمكن للمبطل أن يكون له دليل على باطله، فمن ثم أوجب الله على كل إنسان منذ بعث النبي محمداً عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة أمرين: الأول: أن يجتهد في البحث عن الحق.
الثاني: أن يصيب الوصول إلى الحق، ولا يعتبر عذراً له إذا قال: بحثت وتحريت فوجدت -مثلاً-: النصرانية هي دين الحق أو اليهودية أو البوذية إلى آخره؛ لأن الأدلة واضحة وضوحاً بحيث لا يجحدها إلا مكابر، أما الباحث عن الحقيقة بإخلاص فحتماً لابد أن يصل، والواقع يؤيد هذا كما تعلمون.
فقوله تعالى: ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)) أي: جهاداً ممتداً بالقرآن، وذلك بإقامة الحجج القرآنية على القضايا الكلية، وبالذات قضايا العقيدة والتوحيد.