ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً؛ لأنه سبحانه وتعالى قال:(التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف) وعطف بالواو حيث قال: (والناهون عن المنكر) ثم قال: (والحافظون لحدود الله) فما السر في وجود الواو في هذين الموضعين؟ أما قوله تعالى:(والناهون عن المنكر) فقالوا: سر العطف فيه: إما للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن بينهما تلازماً في الذهن والخارج، يعني: قوله عز وجل: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) فيه إشارة إلى أن هاتين الوظيفتين هما صفة واحدة أو فعل واحد، سواء كان في الذهن أو في الخارج؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم النهي عن المنكر، فإذا أمرت بالصلاة فأنت تنهى عن ترك الصلاة، وإذا نهيت عن ترك الصلاة فكأنك تأمر بالصلاة وهكذا، فلما كان بينهما من التلازم سواء كان في الذهن أو في الواقع الخارجي اعتبرا كأنهما خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن فعل الأوامر يتضمن ترك النواهي، فكان بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما.
أما الموضع الثاني وهو قوله تعالى:(والحافظون لحدود الله) فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبعة؛ لأن العرب إذا وصلت إلى العدد السابع يكون هذا عدداً تاماً عندهم، وحينئذ يبدءون العدد الجديد بالواو، يقولون مثلاً: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة، وثمانية تسعة عشرة وهكذا، فإذا فرغوا من السبعة يقولون: وثمانية، فهذه اسمها واو الثمانية، فهنا في نفس هذه الآية:((التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ)) لأنها جاءت في الصفة الثامنة، ولذلك تسمى: واو الثمانية.
ونُظِرَ فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة، لاستعماله في التكثير لا معدودة، وهذا نفس ما قالوه في قوله تبارك وتعالى:{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}[الكهف:٢٢] فقالوا: هذه واو الثمانية، وهذا المبحث فيه نقاش كثير، ومن العلماء من أبطل هذا الاستدلال، فيمكن مراجعته في كتاب ((مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)) لـ ابن هشام.
وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله في تفصيل الفضائل: التائبون، العابدون، السائحون إلى آخره، وهذا مجملها، أجمل كل ما مضى في قوله:(والحافظون لحدود الله)؛ لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه.
وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهرها يعني: إقامة الحدود كالقصاص على من استحقه، والصفات الأولى إلى قوله:(الآمرون بالمعروف) هي صفات محمودة لازمة للشخص في نفسه، لكن قوله:(والحافظون لحدود الله) هذه باعتبار غيره؛ لأن حفظ حدود الله: هي إقامتها على مستحقيها بالقصاص مثلاً، فلذا تغاير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به.