للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة]

إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة، فقد توجد عداوة لكن لسبب آخر غير سبب الكفر، فلا تعامل نفس المعاملة التي في معاداة سببها الكفر، فمن الممكن أن تحصل عداوة بين اثنين من المسلمين بسبب محاقة أو مخاصمة أو اختلاف، فمثل هذا لا يوجب نفس النوع من العداوة، ولا يترتب عليه ما يترتب على المعاداة التي يكون سببها الكفر.

فمثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤] فهنا وصف الأولاد والأزواج بأنهم قد يكونون أعداء، وهذه العداوة تختلف تماماً عن العداوة التي سببها الكفر، لأن عداوة الشخص المحبوب كائنة في أن يفتنك لترضيه، مثل أن تحرض الزوجة زوجها على أن يأتي بالمال ولو من الحرام، وأن تشغل محبة الولد الأب عن العبادة مثلاً كما قال تعالى: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:٩]، فإذا حرضت الزوجة أو الأولاد الرجل على معصية الله، أو على الكسب الحرام، أو على أي مخالفة شرعية، فهذه هي العداوة المقصودة هنا في هذه الآية.

وهذه الآية التي فيها العداوة لسبب غير الكفر: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) قال الله سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:١٤] فانظر كيف أتبعها الله سبحانه وتعالى بالتحريض على العفو والغفران والمسامحة، فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة الكفار الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران؛ لأن هذه العداوة لسبب آخر بينه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] فكان مقتضاها الحذر من أن يفتنوه أو يؤزوه على المخالفات الشرعية، لا أن يتخذ الرجل زوجته وأولاده أعداء، فإن مقتضى الزوجية حسن العشرة وليس المعاداة؛ لأن السبب هنا ليس هو الكفر.

وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادهم في الدين فقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:٨].

وإعراب (أولياء) من قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)): مفعول ثانٍ، والمفعول الأول هو: (عدوي)، ومعنى أولياء: أنصار كما ذكرنا سابقاً.

فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ؛ لما فيها من الفتنة بالدين وأهله.