[حقيقة إدراك الجنة والنار وتكلمهما]
قال الناصر في الانتصار: إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك، وكيف نؤول وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك منها هذه الآية: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)).
ومنها: لجاج الجنة والنار واختصامهما كما في الحديث.
ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها بنفسين.
وهذه النصوص يجب حملها على حقائقها؛ لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وقد وقع مثل هذا قطعاً في الدنيا، كتسليم الشجر، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة لاتسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق.
فنذكر هنا بما كنا قد ناقشناه من الأدلة عند الكلام على عبودية الكائنات: فمن الأدلة التي تؤيد ما ذكرناه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم! فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) متفق عليه.
ولا شك أن هذا الحديث فيه بيان أن الجنة والنار يعرفان ربهما، وأن في الجنة والنار إدراكاً وتمييزاً بحيث يتحاجان ويكلمان ربهما عز وجل.
وأيضاً في الحديث الذي ذكرناه (اشتكت النار إلى ربها وقالت: رب أكل بعضي بعضاً) فيه أن النار لها لسان بل لها أذنان وعينان كما في هذه الآية: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) فهذا واضح في ذلك.
وبين الله سبحانه وتعالى أن للنار إدراكاً، وأنها تتغيظ حنقاً على الكافرين، يقول تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:١٢] فقوله: ((إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))، يدل على حدة بصر النار.
ويقول تبارك وتعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:٧ - ٨].
وكذلك الجنة فيها إدراك، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: لـ علي وعمار وسلمان) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أيضاً نار الدنيا لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله تعالى، ولا أدل على ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ} [الأنبياء:٨٦ - ٨٧] فخاطب الله عز وجل النار، فهذا دليل على أنها تدرك وتفهم الخطاب.
كذلك كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها، فيكون ذلك علامة على قبولها وعدم الغلول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء) إلى أن قال في الحديث: (حتى فتح الله عليه، قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه، فلصقت يد رجل فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال: فيكم الغلول! فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه في المال وهو في الصعيد فأقبلت النار فأكلته) وهذا رواه مسلم فهذا أيضاً يدل على أنها تدرك، وأنها تعرف أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
فهذه النصوص جزء من كثير من الأدلة التي تؤيد المذهب الحق، وأمثال هذه النصوص ينبغي حملها على حقيقتها، وعدم الاعوجاج إلى القول بالمجاز.