تفسير قوله تعالى: (كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم)
قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:١٥].
أي: مَثل هؤلاء اليهود من بني النضير فيما نزل بهم من العقوبة كمثل من نال جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو قينقاع، قال ابن كثير: والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا، قال قتادة: إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوه فيما بين بدر وأحد.
وكان من أمرهم -فيما روي- أن أمرة من العرب قدمت بجلَب لها فباعته بسوق بني قينقاع، فجلست إلى صائغ، فجعلوا -أي: اليهود- يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها -وهي جالسة على الأرض- فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستطرق أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الثأر بينهم وبين بني قينقاع، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عز وجل مثّل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من نكاله بالذين من قبلهم من مكذبي رسوله صلى الله عليه وسلم الذين أهلكهم بسخطه، وأمْر بني قينقاع ووقعة بدر كانا قبل جلاء بني النضير، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم، فمن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون بهم فيما عنوا به من المثل.
أي: أن ابن جرير -وهو إمام المفسرين وشيخهم- يرى تعميم الآية وعدم تخصيصها ببني قينقاع، بل هي تشمل بني قينقاع، وتشمل أيضا المشركين في بدر، ((كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)) يقول كل ذائق وبال أمره ممن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون به فيما عنوا به من المثل.
يقول صاحب (الظلال) رحمه الله تعالى: وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة، ورفعها على الأفق في إطار النور يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة؛ ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها: فريق المنافقين.
قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} [الحشر:١١] يقول: وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير، ثم لم يفوا به، وخذولهم فيه حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر الحقيقة، وتمسّ قلباً، وتبعث انفعالاً، وتقرّ مقوِّماً من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق، وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب، ((أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، فأهل الكتاب كفار، والمنافقون إخوانهم ولو أنهم لبسوا رداء الإسلام.
ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ))، فاللام لام القسم، ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ))، فالله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، ((لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)) أي: لو احتُمل وقُدّر نصرهم هذا مع أنه لا يقع، ((لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)) وكان ما شهد به الله، وكذَب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه.
ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:١٣]، فهم قوم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من عباده، فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه، فالعزة لله جميعاً، وكل قوى الكون خاضعة لأمره، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:٥٦]، فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف غير الله، ولكن الذين لا يفقهون يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))، وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة، ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة، ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب تنشأ من حقيقتهم السابقة، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله، وهي أنهم {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:١٤]، وهذا وصف لحالة مستقرة، وصفة لازمة من صفاتهم، فقد أتت هذه الصفة بصيغة الخبر: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ))، ثم يقول: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)) وهذا مبتدأ وخبر، وهذا الخبر حقيقة واقعة لا تتغير أبداً، ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، والفعل المضارع يفيد الاستمرار أيضاً، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) يقول -وما أعجب ما يقول! فإنه قال هذا من عدة عقود رحمه الله- يقول: وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم، في أي زمان وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان.
ولقد شهدتْ -ولا أدري هل هذا الكلام كان في سنة ثمانٍ وأربعين مثلا- الاشتباكات الأخيرة أو بعدها في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين، فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولّوا الأدبار كالجرذان، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء، وسبحان العليم الخبير.
وتبقى الملامح النفسية الأخرى ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، على خلاف المؤمنين الذين تتوحد أجيالهم، وتربط بينهم العقيدة، وتقفز وراء حدود الزمان والمكان والجنس والنوع والانتماء لتوحد قلوبهم، فتتضامن أجيالهم حتى إن الخلَف ليدعون للسلف الأول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا)).
وعلى خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة.
قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))، والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، والناس الذي يتابعون الأخبار منذ مدة يحكون كيف أنهم في مجلس الكنيسة يضربوا بعض نساءهم ضرباً حقيقياً، وهذا شيء سهل معتاد عندهم، فهذا كله يعكس ظلال هذه الآية: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا)) في الظاهر، وأما في الخفاء: ((وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)).
يقول: والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع، وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخدّاع، فيبدو من وراءه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل معسكر واحد قائم على اختلاف المصالح، وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل بأسهم بينهم شديداً، وما صدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم إلّا وقُذف في قلوب أعدائهم الرعب، فإنه من أعظم جنود الله، ولنا في هذه السورة عبرة، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:٢].
فالله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين في هذه الغزوة: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:٥]، فهم لم يفعلوا شيئاً، وإنما الذي فعل هذا هو الله، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:٢] أي: أن القوة في الحقيقة هي القوة القلبية، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، فنحن نرى هذا الجيش المدجج بالسلاح أمام أناس عُزَّل، فأقصى شيء يملكه الشباب والأطفال الفلسطينيون هي الحجارة، ومع ذلك فانظر إلى الفزع والهلع الذي هم فيه، وانظر إلى سعيهم لإدخال القريب والبعيد، وقد أعلنت إسرائيل اليوم عن غضبها من أمريكا؛ لأن أمريكا لم تضغط على الفلسطينيين بالصورة الكافية حتى يكفوا عن هذه العمليات، فماذا يصنع أطفال وشباب بالحجارة إزاء هذا الجيش المدجج بالسلاح؟! يقول: وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات فهذا التضارب، وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد، والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة.
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلم يعودوا يمثلون حقيقة المؤمنين الذي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة، فأما بغي