[تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية عاملة ناصبة)]
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.
أي: هل أتاك خبرها وقصتها؟ والغاشية: هي القيامة، وأصل الغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها.
والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة، وهي وجوه أهل الكفر للحق والجحود له، وعبّر بالجزء عن الكل، فالمقصود بالوجوه الذوات، بدليل أنه قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:٣ - ٥]، فهذا مما يؤكد أن المقصود بالوجوه الذوات.
وقوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، أي: تعمل أعمالاً صعبة تتعب فيها، ونلفت النظر إلى هذا المعنى المهم؛ وهو أن الأشغال الشاقة المؤبدة نوع من العقوبة، ففي النار أشغال شاقة، والدليل هذه الآية، فكأن ملائكة العذاب تكلف الكفار بهذا النوع من أنواع العذاب الذي لا يتناهى والعياذ بالله، فتكلفهم بأعمال شاقة؛ إتعاباً لأبدانهم وتعذيباً لهم.
إذاً: قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، أي: تعمل دائماً أعمالاً صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، فهم يرمون -والعياذ بالله- في النار، ثم يكلفون بارتقاء العقبات العالية المرتفعة، فهذا بلا شك فيه تعب ونصب شديدان.
أو (عاملة) من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة من جنس أعمالها التي رضيت بها في الدنيا، وإتعابها فيها من غير منفعة لها منها إلا التعب والعذاب؛ لكنهم في الدنيا كانوا يجنون من ورائها ربحاً ومالاً، أما في النار فالعذاب بالإصعاد والأعمال الشاقة التي يكلفونها ليس فيه مقابل إلا التعب والعذاب.
ويجوز أن تكون {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: إشارة إلى عملهم في الدنيا، فيكون المعنى: كانت عاملة ناصبة في الدنيا.
إذاً: يوجد وجهان للآية: الأول: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: عاملة ناصبة في أعمال الدنيا، كالذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث بقوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار) أي: يكدح بالنهار في عمل الدنيا كالحمار.
الثاني: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: الكافر الذي يتعب نفسه في العبادة كالرهبان الذين يعيشون في حرمان، بسبب تحريم الطيبات على أنفسهم من أطعمة وألبسة، وكذا التمتع بمتاع الحياة الدنيا الذي أباحه الله لخلقه، فيَحْرمون أنفسهم ويعذبونها بأنواع المشاق، ويجتهدون في الصلاة والصيام وغيرها من العبادات، ثم تكون هباءً منثوراً يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:١٨]، فتحبط جميع أعمالهم بالكفر، وكما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:١٠٣ - ١٠٤]، فهذا أشد الخسران، ففي حقهم يكون معنى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: أنهم يكدّون ويكدحون ويتعبون في التعبد بكافة أنواع المشقات، وهم يرجون بذلك الثواب من الله سبحانه وتعالى، ثم إذا بهم يفاجئون يوم القيامة كما قال الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧].
ويجوز أن يكون قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} إشارة إلى عملهم في الدنيا، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تجزى عليها في الآخرة، فيكون بمعنى: حابطة أعمالها، أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما تدل عليه آيات أخر، مثل قوله تعالى في سورة النور {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٩].
ويؤيده مقابلة هذه الآية لقوله في أهل الجنة: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:٩]، فأول صفة للكفار هنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}، وأول صفة للمؤمنين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:٨].
الصفة الثانية للكفار: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، والصفة الثانية للمؤمنين: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}، ما هو السعي؟ السعي الذي كان في الدنيا، فالمؤمن يأتي راضياً عما سعى في الدنيا من الأعمال الصالحة، ويقابلها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، وهذا يقوّي قول من قال: إن المقصود بـ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: عملها في الدنيا، والله تعالى أعلم.