[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا)]
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:١١].
هذا تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس، وأدب المجالس باب مستقل من أبواب الأدب، صنف العلماء فيه كتباً مستقلة، وهو موضوع طويل لكن نمر عليه مروراً سريعاً ضمن تفسير الآية.
فهنا يعلم الله سبحانه وتعالى المؤمنين ويؤدبهم على الإحسان في أدب المجالس.
ومن هذه الآداب: أن يفسح المرء لأخيه ويتنحى توسعة له.
وارتباط هذه الآية الكريمة بما قبلها ظاهر؛ لأنه في الآية الماضية نهى عن التناجي والسرار، فلما نهى عن التناجي والسرار علم معه الجلوس مع الملأ، فذكر آدابه.
يعني: أن التناجي لا يكون إلا في مجلس، فذكر آداب هذا المجلس، ورتب على امتثالهم فسحه لهم فيما يريدون من التفسح في المكان والرزق والصدر، فتأمل الفعل وتأمل المكافأة! أما الإفساح فهذا شيء نشعر به من بركات مجالس المسلمين واجتماعهم وتزاحمهم في مجالس الرحمة والذكر، ونلاحظ أن الناس إذا ضيقت على أنفسها وبخلت تضيق عليها الأمور، وربما يريد شخص أن يدخل في الصف فإذا أخذ الناس الأمر بسهولة تجد أن الفسحة تحصل في الصف وذلك من بركة الإسلام وبركة الصلاة وبركة امتثال هذا الأمر، وإذا أتى رجل وحاول أن يدخل في الصف فقد يأتي ثان وثالث مع أن الناس كانوا يتصورون أن أول واحد هذا لن يكفيه المكان، فتجد أن البركة تحصل.
قال ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، ولهذا أشباه كثيرة، وقد جمع أحد إخواننا الأفاضل الدكتور سيد حسين وأحفاده قاعدة: الجزاء من جنس العمل في كتاب كبير حافل بهذه الأشباه التي يشير إليها الإمام ابن كثير هنا.
قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا)).
((وإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) أي: انهضوا، يعني أن التوسعة لن تتم إلا إذا قام البعض أو ارتفعوا في المجالس.
أو: انهضوا عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوه بالارتكاز فيه.
يعني: إذا أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنهضوا عنه وتنصرفوا فانصرفوا، ولا تملوه بالارتكاز في المكان وعدم الحركة.
((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، أي: يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالمين بها الجارين على موجبها بمقتضى علمهم، درجات دنيوية وأخروية.
قال الناصر: لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء؛ ليدخل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعاً لله تبارك وتعالى.
نلاحظ هنا أن الأمر والتكليف شمل المؤمنين جميعاً: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، ولكنه عند ذكر الجزاء فصّل فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))؛ لأن أهل العلم في الغالب يصدرون في المجالس وترفع مجالسهم؛ فخصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما خصوا به من الرفعة في المجالس؛ تواضعاً لله تبارك وتعالى.
وهذا كما قال الشهاب: من مغيبات القرآن، لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس ومحبة التصدير، يعني: كأن هناك بعض من ينتسب إلى العلم ينشغل كثيراً بموضوع الرفعة في المجالس، وأن يكون له الصدارة فيها، ويحب الظهور على مقعد أو في مكان مميز، وهذا لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وفي كلام الزمخشري ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام تعظيماً له بعدّه كأنه جنس آخر.
يعني أن قوله: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، يعني: ما عدا أهل العلم، أما أهل العلم فهم فئة مستقلة.
قول الزمخشري: إن هذا من باب عطف الخاص على العام، بمعنى أن قوله تعالى: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، هذا عام فيشمل في ضمن ما يشمل أهل العلم، ثم خص من هذا العموم أهل العلم بقوله: ((وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، فهذا كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:٩٨]، فهذا تخصيص بعد تعميم؛ لأن جبريل وميكال من الملائكة، ولذا أعاد الموصول في النظم فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، ولم يقل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم) وإنما كرر (الذين)، فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)).
والمراد بالعلم: علم ما لابد منه من العقائد الحقة والأعمال الصالحة.
وفي الآية استحباب التفسح في مجالس العلم والذكر وكل مجلس طاعة.
ومن آداب المساجد أن يفسح الإنسان لأخيه، خاصة عند الزحام في بعض التجمعات مثل صلاة العيد والجمعة ودروس العلم، فينبغي أن يحرص المسلمون على التفسح في المجالس والتسامح في هذا الأمر.
ويفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)، رواه الإمام أحمد والشيخان.
وهذا التعبير من القاسمي رحمه الله تعالى دقيق: إذ إنه يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن ضد ذلك، فمن جلس في مجلس فيه زحام وقال للناس: تفسحوا، فليس معنى تفسحوا قوموا، بل: كونوا جالسين ولكن كل واحد يفسح لكي يجد الآتي مكاناً فيجلس فيه، وإلا لو كان يجوز للشخص القادم أن يقيم واحداً ويجلس مكانه لما أمروا بالتفسح.
فإذاً يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فهذا ممنوع شرعاً، خاصة في المكان العامر لجميع المسلمين، كالمساجد أو غيرها من الأماكن العامة.
لكن لو كان في بيته وسلطانه، وله مكان خاص فلا يجوز لأحد أن يجلس فيه؛ لأن هذا خاص وفي ملكه، وقال النبي عليه السلام: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فالإنسان إذا دخل عند شخص ضيفاً لا يتحرى مكان الصدارة أو المكان الخاص بصاحب البيت، مثل كرسي المكتب الخاص به، أو مقعد معين له صدارة معينة، بل يترك هذا لصاحب البيت، فإن أذن له فلا بأس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)، رواه الإمام أحمد.
وفي رواية بلفظ: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، لكن افسحوا يفسح الله لكم)؛ وهذا الكلام يقودنا إلى موضوع آخر من الموضوعات المتعلقة بآداب المجالس، وهو: حكم القيام للشخص القادم.