[بلاغة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)]
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني بالغة إلى أعلى الدرجات؛ لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة.
فقد حاول العرب الفصحاء البلغاء أن يعبروا عن هذا المعنى بكثير من الألفاظ، وعددوها حتى تنوعت وتكاثرت، ومع ذلك لا يقوى واحد منها أبداً أن يوازى بكلام الله عز وجل.
مثل قولهم: قتل البعض إحياء للجميع.
وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل.
يقول القاسمي سننتقي أجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب ونقارنها بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فانتقى القاسمي أروع ما عند العرب في هذا الباب, وأبلغ وأفصح ما أثر عنهم في التعبير عن هذه المعاني.
يقول: وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، وقد كانوا قبل نزول القرآن متفقين على استجادة معنى كلمتهم، واستجادة لفظها، ومعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله والمخلوقين، الفرق بين قوله تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل كما بين كلام الله وبين كلام المخلوق، والفرق بينهما كالفرق بين الله وبين خلقه، وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته؟! قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أبلغ ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل، وإنما كان هذا أفضل ما كان عند العرب من البلاغة لقلة الألفاظ مع سعة المعاني، فهذه أقل الألفاظ التي أثرت عن العرب: القتل أنفى للقتل، وقد فضلت هذه الآية بعشرين وجهاً أو أكثر على قولهم: القتل أنفى للقتل.
وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وهذا كلام صحيح، كيف يقارن كلام الخالق بكلام المخلوق، حتى يقال: إنه أفضل من عشرين وجهاً؟! فلا وجه للمقارنة، ولكن العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك، وإن كان يخفى عليهم أضعاف أضعاف ما ذكروه مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى من الحكم، لكن من باب تدبر القرآن نتأمل في هذه الوجوه وننظر.
يقول: الأول: أن ما يناظره من كلامهم -وهو القصاص حياة- أقل حروفاً، فإن حروفه عشرة، وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر، فهذا أول الوجوه من حيث الوجازة.
الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، فحينما نقول: القتل أنفى للقتل، فنفي القتل لا يستلزم الحياة، لكن حينما يقول الله تبارك وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))، فالقصاص حياة، فهنا نص على ثبوت الحياة، في حين أن عبارة العرب إنما تنفي القتل فقط لكنها لا تنص على ثبوت الحياة، والحياة هي الغرض المطلوب من القصاص.
الثالث: أن تنكير حياة يفيد التعظيم، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة كقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:٩٦]، ذكرنا أنها حياة حتى ولو خفيفة، ويمكن أن يقال: القصاص حياة يعني: طويلة، ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس؛ ولذا فسروا الحياة فيه بالبقاء.
فإذاً: حياة تنكيرها يصير تعظيماً، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة، ولا كذلك المثل.
الرابع: أن الآية فيه مطردة بخلاف المثل، ففي كل قصاص حياة في كل الأحوال، أما القتل فلا يشترط أن كل قتل يكون أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، بل إنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، فلو قتل رجل آخر ظلماً فهل هذا القتل ينفي القتل أم أنه يكون مدعاة لمزيد من القتل؟ يكون مدعاة لحصول مزيد من القتل.
فإذاً: كلامهم ليس على إطلاقه، وليس مطرداً؛ لأنه ليس كل أنواع القتل تكون أنفى للقتل بل بعضها قد تكون مجلبة للقتل، بخلاف القصاص الذي هو نوع مخصوص من القتل، فلذلك نراعي هنا الفرق بين كلمة القصاص وبين كلمة القتل.
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة، فقولهم: القتل أنفى للقتل، تكررت فيه كلمة القتل، وهذا لا يخل بالفصاحة، لكن بلا شك أن الخالي من التكرار أفضل من الذي يشتمل على التكرار.
الوجه السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف (القصاص حياة)، بخلاف قولهم ففيه حذف، فتقديره: القتل أنفى للقتل من عدم القتل، فإن (أنفى) أفعل تفضيل لابد أن يقدر له محذوف.
أيضاً: حذف قصاصاً مع القتل الأول، وظلماً مع القتل الثاني، ففي المثل حذف كثير، فإن الذي يقصده العرب هو: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من عدم القتل، وحتى تفهم النص العربي لا بد أن تقدر كل هذا، أما الآية فهي مستغنية عن تقدير محذوف.
السابع: أن في الآية طباقاً؛ لأن القصاص عكس الحياة، بخلاف المثل، فإن العرب قالوا: القتل أنفى للقتل، فهنا تشابه واضح، بخلاف الطباق بين القصاص والحياة، وهذا من أنواع البديع.
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلاً ومكاناً لضده الذي هو الحياة، وهذا من أروع ما يكون؛ لأن أحد الضدين الذي هو الفناء والموت جعله محلاً ومكاناً لضد الموت وهو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، نقله في الكشاف، وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة، ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) كأن القصاص هو الذي تنبع منه الحياة، فهو بلا شك أروع ما يكون من البلاغة ومن البديع، فجعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال كلمة في: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ)).
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفية وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، فالكلام الذي تكون حركاته سهلة ومتتالية غير الكلام الذي يكون فيه بين وقت وآخر السكون، كما في الآية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لكن في المثل: القتل أنفى للقتل.
يقول: فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع.
يقول: نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة.
إذاً: هذا الفرق أيضاً من حيث اللغة، فالقتل أنفى للقتل غير (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
العاشر: أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه، فقولهم: القتل أنفى للقتل، هل الشيء ينفي نفسه؟! الشيء لا ينفي نفسه، فهذا فيه تناقض من حيث الظاهر.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير القاف، وبعدها عن غنة النون.