[وجه الجمع بين قوله تعالى: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)]
قال عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:١٣٠]، فما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله عز وجل: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣] ففي هذا الموضع حلفوا وأقسموا على أنهم ما كانوا مشركين، وفي الآية الأخرى: ((وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))؟ والجواب أنه ينبغي أولاً أن يكون السؤال أن تقول: ما الحكمة؟ أو ما السر في كذا؟ أو ما السبب في كذا؟ لكن أن تقول: هناك تعارض بين هاتين الآيتين فهذا من سوء الأدب؛ لأن كلام الله لا يضرب بعضه ببعض، وإنما من الأدب أن تقول: ما وجه الجمع؟ أو كيف يرفع الإشكال بين كذا وكذا؟ أو: غير ذلك من التعبيرات، لكن أن يزعم امرؤ -والعياذ بالله- أن بينهما تعارضاً، فهذا من سوء الأدب مع كلام الله عز وجل.
فبعد هذا السؤال يأتي
الجواب
بأن يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتخيل أنك يوم القيامة تحاول أن تمعن فهي بعقلك، فقدر يوم القيامة خمسون ألف سنة مما نعد، فالواحد منا يعيش ستين سنة إلى مائة سنة مثلاً، فتخيل يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يعمل الإنسان فيه شيئاً، ولا تستطيع أن تستدرك أو تستثمر هذه الخمسين ألف سنة حتى تنجو؛ لأنك انتقلت إلى دار الجزاء، فالإنسان إذا حاول أن يدرك مقدار هذا اليوم العظيم يستطيع أن يستشعر ما فيه من الأهوال والمعاناة، ويجتهد في العمل لأجل هذا اليوم، ثم إذا ترقى بعد ذلك وتخيل الحياة الدائمة الخالدة التي لا نهاية فيها ولا موت على الإطلاق -سواء في جنة أو في نار- يدرك -أيضاً- أن الأمر جد لا هزل فيه.
فالخمسون ألف سنة هذه تكون حافلة بالأحداث وبالوقائع وبالأحوال المختلفة، وتتنوع فيها الأحوال، فتارة يقر الخلق، وفي مناسبة معينة وفي ظروف أخرى يجحدون، وتارة يقولون: نشهد على أنفسنا أننا كنا كافرين.
ومرة أخرى يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
فهذا هو سبب التعارض في الأقوال وفي الإقرارات، فمرة يحلفون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
ومرة أخرى يعترفون ويقرون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين.
مثلاً: إذا كان وكيل نيابة يأخذ أقوال أحد فإنه يعترف بشيء، ثم بعد ذلك يتردد، ثم ينفيه، ثم يرجع فيثبته مرة أخرى، فهذا الاضطراب يدل على شدة الخوف والفزع واضطراب الأحوال، فلا شك في أن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه، حتى إنه لو حصل شيء من التضارب في الأقوال فإن التحقيق كله يلغى؛ لأن هذا يدل على أن الإنسان لم يكن في حالة نفسية مستقرة، فكونه يقول كلاماً ثم ينفيه، ويصدقه ثم يكذبه يدل على أن حالته النفسية غير مستقرة عند التحقيق لسبب أو لآخر، فبالتالي يُرفض التقرير كله.
فالشاهد أن هؤلاء يقرون مرة ويجحدون مرة أخرى، فمرة يحلفون ويقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) وهذه يمين مغلظة، ويتهمون الملائكة أنهم افتروا عليهم، وأنهم سجلوا في صحائف أعمالهم ما لم يفعلوه، ويقول أحدهم: لا أريد شاهداً إلا من نفسي.
ثم يفحهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك حينما يحاولون كل طرق الخلاص يعترفون، كما قال عز وجل: ((وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))، يعني: بالفعل.
وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) أن المراد: شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.
فإن قيل: لماذا كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم في الآية الكريمة: ((قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) فالأولى حكاية لقولهم، فكيف يقولون ويعترفون؟ فالجواب أن المتكلم في المرة الأولى في قوله تعالى: ((شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا)) هم الكفار أنفسهم، فهذه حكاية لما قالوه بحروفه.
وأما المتكلم في المرة الثانية في قوله تعالى: ((وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) فهو من كلام الله سبحانه وتعالى، يقصد به ذمهم وتخطئة رأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.
فما أعظم حجة القرآن الكريم! فإن كل هذه المحاورات من أجل مصلحتنا نحن، فيجب على كل إنسان مسلم وكافر أن يستحضر هذه المواقف، ويستعد لها من الآن؛ لأنه ليس هناك إقامة للحجة أكثر من هذا، فكل تفاصيل يوم القيامة، وحجج التوحيد، ومجادلة المشركين، وتنويع الخطاب بهذه السور إنما المقصود به أن تقوم الحجة على الناس، فلن يهلك على الله إلا هالك عاتٍ متمرد قاس يستحق عذاب الله سبحانه وتعالى.
فالله يقول له: لو كفرت ستخلد في جهنم وتعذب هذا العذاب الأليم، وهذه هي الحجج وهذه هي البراهين: ومع ذلك يصر، مع أنه أعطاه الله الفرصة، وأرسل إليه الرسل، وقامت عليه الحجج، فلا شك في أنه يستحق العذاب، وأن الله ما ظلمه؛ لأنه سبق أن أنذره بذلك.