[كلام الناصر على تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد]
قال الناصر: في الآية أسئلة ثلاثة: لِم عرف الخلق الأول، ونكر اللبس، والخلق الجديد؟ فاعلم أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه.
يعني: التعريف غير التنكير، التنكير ممكن أن يأتي للتعظيم، ويأتي أحياناً للتقليل أو التحقير، أما التعريف فلا يأتي إلا للتعظيم.
ثم قال: ومنه تعريف الذكور في قول الله تبارك وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:٤٩].
إشارة إلى تعظيم الذكر على الأنثى، فأتى بالتعريف لأنه لا يحتمل إلا التفخيم والتعظيم، ولذلك لما أقام أصحاب تحرير المرأة مؤتمرهم الأخير كانت الآية هذه من ضمن الأشياء التي جعلت إحدى المرشدات تقول: أنا أعترض على هذا التعريف؛ لأنها فهمت أن تعريف الذكورة يقتضي تفضيل الذكر على الأنثى.
واعتراضهم على القرآن الكريم كفر وخروج من الملة.
وكذلك كان الاعتراض على عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وهو من إلحادهم، واستعملوا تعبيراً وقحاً جداً في مؤتمر للمرأة أيضاً عقد في اليمن، سموها جندرة اللغة، أنا وقتها لما قرأت المحاضرة لم أكن أستحضر ما هو معنى كلمة جندرة؟! قلت: يمكن أن تكون لهجة يمنية، بعد ذلك لفت نظري كلمة جندر، وجندر تعني الانتماء إلى أحد النوعين الذكر أو الأنثى في اللغة الإنجليزية، فهم ولدوا منها تعبير جندرة اللغة، وهذا مطلب من أيام هدى شعراوي فقد كانوا يعقدون المؤتمرات، وفي إحدى المؤتمرات طالبت بإلغاء نون النسوة من اللغة العربية، وغير ذلك من مطالبهم التافهة ومقاصدهم السخيفة.
فالشاهد من الكلام أن التعريف يفيد التفخيم، وإن كان الله تفضل على الإناث بأن قدمهن على الذكور، فقال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:٤٩].
ثم يقول: ولهذا المقصد عرف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، فإذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى ألا يعيا به، فهذا سر تعريف الخلق الأول.
أما التنكير فأمره منقسم، فمرة يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكّر والوضع منه، وعلى الأول قوله تبارك وتعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨]، وقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:٩]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:١٧] وهو أكثر من أن يحصى.
أما الثاني: وهو الأصل في التنكير أنه للتقليل، فلا يحتاج إلى تنكيره، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون للتفخيم، وكأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته.
وهذه الآية الكريمة: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) هي من براهين البعث والنشور، وبراهين البعث والنشور سبق أن قلنا: إن منها إحياء الأرض بعد موتها.
ومنها أيضاً الاستدلال بإمكان الخلق الثاني؛ لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول فلا شك أن في قدرته إعادتهم وخلقهم مرة أخرى؛ لأن الإعادة تكون أصعب من البدء، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، كقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩].
وقال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٥١].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧].
وإعادة الخلق والبعث والنشور (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من البدء.
لكن يجب أن يفهم أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وأنه لا يوجد سهل وأسهل، وهين وأهون في حق الله، لكن القرآن يخاطبنا بما تقتضيه عقولنا فيما نعتاده نحن من أفعال، فالإعادة أهون بالقياس إلى ما تقتضيه عقول المخاطبين؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فالابتداء والإعادة سواء في السهولة.
فإياك أن تفهم أن قوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) يعني: وهو أسهل على الله؛ لأن كل شيء بالنسبة إليه سبحانه بين الكاف والنون، يقول عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].