للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع المنتفعين بالآيات من الناس حال دعوتهم إليها]

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: المنتفع بالآيات من الناس نوعان: أحدهما: ذو القلب الواعي الذكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه، ولا يحتاج إلى أن يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته، بل قلبه واع ذكي قابل للهدى غير معرض عنه، فهذا لا يحتاج إلا إلى وصول الهدى إليه؛ لكمال استعداده وصحة فطرته، فإذا جاءه الهدى سارع قلبه إلى قبوله كأنه كان مكتوباً فيه، فهو قد أدركه مجملاً ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته.

وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل، فأول ما يصل الحق ينقاد إليه، كما هي حال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه.

وكحال مؤمني قوم نوح عليه السلام؛ لأنَّه في سورة هود قال المشركون لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:٢٧]، فكانوا يذمون المؤمنين المستضعفين الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام، فذموهم لأنه استجابوا أول ما دعاهم نوح عليه السلام، فذموهم بقولهم: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)) [هود:٢٧]، فما أن سمعوا كلامك حتى انقادوا لك.

فهم يذمونهم؛ لأنهم لم يتمهلوا، ولم يتريثوا ويفلسفوا الأمور ويقلبوها على وجوه شتى.

وهذا مما لا يذم به، بل هذا مما يمدح به الإنسان، أنه إذا وضح الحق ينقاد إليه بلا تأجيل ولا تكييف، فهذا حال أكمل المؤمنين من أتباع الأنبياء الذين يستجيبون فوراً لدعوة الرسل، كما هو حال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، فقد أسلم بمجرد أن أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته، فهذا هو النوع الأول.

فالنوع الأول قلبه متوائم مع الفطرة، فهو في غاية السلامة، فلا يحتاج إلا أن يصل إليه الهدى فقط، فإذا بلغه الحق انقاد إليه في الحال، وهذا حال كثير من الناس، ورأينا وسمعنا أن كثيراً من الكفار أسلم كذلك؛ لأن قلبه في غاية السلامة، وكأن الحق منقوش في قلبه، ويجيء الهدى فيسلط النور على هذا القلب.

وأذكر قصة أحد الإخوة الأفاضل من أمريكا يدعى إدريس دارمر، وهو من أنشط الإخوة في الدعوة في تلك البلاد.

وقصة إسلامه في غاية العجب، فقد جال كل أنواع الظلام من الأديان، كان أولاً شيوعياً ملحداً، ثم انتقل إلى النصرانية، ثم رفض النصرانية وانتقل إلى الأديان الشرقية كالبوذية ودرسها، وحاول أن يبحث عن الهدى فيها فلم يجد شيئاً، إلى أن زار يوماً جاراً له مسلماً في البيت فسأله: ما هذا الكتاب؟ قال: هذا القرآن، فأخذ ترجمة القرآن وفتح الصفحة الأولى على فاتحة الكتاب، فبمجرد أن فتح الصفحة وجد نوراً يخرج الكتاب، ثم قرأ الفاتحة فقال: هذا هو الذي أبحث عنه! وهذا وقد قرأ معاني الفاتحة، فكيف لو قرأها بالعربية؟ وقد أسلم في الحال، وهو الآن من أكبر الدعاة، وله مؤلفات جيدة وخدمة كبيرة جداً للدعوة في كثير من البلاد.

فما كان بينه وبين الحق غير أن يطلع على الحق، ولذلك ينبغي أن لا نعامل الناس معاملة واحدة، فلا نزعجهم بالكلام على نقض التكليف وتحطيم العقائد الفاسدة؛ إذ بعض الناس هو في عافية من هذا البلاء، ليس عنده شبهات ولا عنده ما يعارض به الحق، فما أن يبلغه الحق حتى ينقاد إليه، هذا هو الذي قال الله فيه: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)).

النوع الثاني: من ليس له هذا الاستعداد والقبول، فإذا ورد عليه الهدى أصغى إليه بسمعه وأحضر قلبه، وجمع فكرته عليه، وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله، وهذه طريقة أكثر المستجيبين، ولهم نوع ضرب الأمثال وإقامة الحجج، وذكر المعارضات والأجوبة عنها.

والإسلام واسع لكلا الفريقين، فنحن عندنا من الأدلة والحجج ما يدحض الشبهات ويقيم الأدلة على أنه دين الحق، فلهذا النوع الثاني تضرب الأمثال، ولهؤلاء تقام الحجج وتذكر المعارضات والأجوبة عنها.

والأولون هم الذين يدعون بالحكمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:١٢٥].

والنوع الثاني يدعون بالموعظة الحسنة، فهؤلاء المستجيبون.