للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو)]

قال الله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:٣٦ - ٣٧].

قوله تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) وقال تعالى أيضاً: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:٣٢]، أي: لقصر مدتها، كما قال الشاعر: ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم وقيل: معناه: أن متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، فالذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللعب واللهو، فمثلاً: ترى الأطفال يجتمعون على اللعب بالرمل أو الدمى أو غيرها، ثم ينفض هذا اللعب وينصرفون عنه كأنه لم يكن، فكذلك الدنيا.

وقيل: معنى: (لعب ولهو) أي: باطل وغرور، واللعب ما لا ينتفع به، واللهو ما يلتهى به، وكل ما شغلك فقد ألهاك.

وقيل: اللعب: ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها.

إلا أنه ينبغي أن يفهم من قوله تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) أي: ما كان منها متمحضاً للدنيا، فليس من اللعب ولا من اللهو ما كان من أمور الآخرة؛ لأن حقيقة اللعب هو ما لا ينتفع به، ولا يترتب عليه نفع، واللهو هو: ما يلتهى به.

أما ما كان مراداً للآخرة فهو خارج عن اللعب واللهو، ولذلك قال الشاعر: لا تتبع الدنيا وأيامها ذماً وإن دارت بك الدائرة من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة فالدنيا هي المزرعة التي يزرع المؤمن فيها ليحصد في الآخرة، فليس كل أمر الدنيا مذموماً، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً)، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيهم.

وروي أيضاً: (من هوان الدنيا على الله: ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).

ويقول الشاعر: تسمع من الأيام إن كنت حازماً فإنك منها بين ناهٍ وآمر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر فما رضي الدنيا ثواباً لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاءً لكافر وقال ابن عباس في قوله: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) هذه حياة الكافر؛ لأنه يكون فيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهواً ولا لعباً.

يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:٢١٢]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥] أي: تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء، وهي فانية.

والمتاع: هو ما يتنفع به كالفأس والقدر والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه.

قال الحسن في قوله: (إلا متاع الغرور) أي: كخضرة النبات، ولعب البنات، لا حاصل له.

أي: أن النبات يزدهر فيصير أخضر، ثم يصير في النهاية حطاماً، أو كلعب البنات فإنه لا حاصل له.

وقال قتادة: هي متاع توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع.

قوله: ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))، الغرور هو الشيطان، فهو يغر الناس بالأماني والمواعيد الكاذبة.

وقال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول، يقال: هذا من بيع الغرر، وهو: ما كان له ظاهر بيع يغر، وباطن مجهول.

وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:٧٧]، فوصف متاع الدنيا بأنه قليل؛ لأنه لا بقاء له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها).

وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:٧٠].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:٣٨]، وهذا الاستفهام (ما لكم) استفهام توبيخ، وقوله: (من الآخرة) أي: أرضيتم بنعم الدنيا بدلاً من نعيم الآخرة؟!! فـ (من) هنا تتضمن معنى البدل، ((أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ)) أي: بدل الآخرة، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:٦٠] أي: (لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون).

فعاتبهم الله سبحانه وتعالى على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله تعالى عنها وقد فاقت راشدة: (أجرك على قد نصبك)، أي: رواه البخاري على قدر المشقة التي تعانينها.