تفسير قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:٨٠].
الذي عنده تذوق بلاغي وإحساس باللغة العربية وروعتها عند تلاوة القرآن الكريم يقف كثيراً عند هذا التركيب الفذ في هذه الآية وغيرها، حتى إن أعرابياًَ عندما سمع هذه الآية قال: أشهد أن هذا لا يقوله بشر، أي: يستحيل أن تصدر هذه العبارة من بشر، لقوة البلاغة فيها.
لو شرحت هذه الكلمات المعدودة لشرحت في صفحات كثيرة؛ لما فيها من التعبير النفيس البليغ.
((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) أي: يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد اليأس كما دل عليه السين والتاء فإنهما يدلان على شدة المبالغة في اليأس، وبيان أنهم لم يبق عندهم أي أمل في أن يستجيب لهم يوسف عليه السلام.
قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس لما شاهدوه من عوذه بالله حيث قال لهم: ((معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون)) فقابلهم بهذا الرد الحاسم الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله عز وجل، وحيث سماه ظلماً بقوله: ((إنا إذاً لظالمون)).
((خلصوا)) أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم.
((نجياً)) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ لأن النجي فعيل بمعنى مفاعل، كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:٥٢] أي: مناجياً، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك.
وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والزميل.
وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة.
أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى.
ولذا قال الزمخشري: (نجياً) ذي نجوى، أو فوجاً نجياً، أي: مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً، وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكأن تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟! كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب فاحتاجوا إلى التشاور.
والقاضي عياض له كتاب الشفا، وهو من الكتب المهمة جداً جداً، فعلى الإنسان في بداية التزامه أن يمر بكتاب الشفا؛ لأن الشفا شفاء حقيقة كما وصفه مؤلفه القاضي عياض، وهو أيضاً من الكتب المباركة جداً والتي لها أعظم التأثير في قلب المؤمن، وبالذات فيما يتعلق بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وحيوية هذه الحياة في قلبه، فكتاب القاضي عياض اسمه (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) فهو من الكتب التي ينبغي أن تعطى اهتماماً خاصاً لأي أخ ملتزم، مثل: رياض الصالحين، ومثل: الأذكار للنووي، وقد ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا في بحث إعجاز القرآن: أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام! وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام، ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره في إخوة يوسف: ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.
((قَالَ كَبِيرُهُمْ)) في السن وهو روبيل: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف:٨٠] أي: عهداً وثيقاً في رد أخيكم، وإنما جعله منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم.
((وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ)) أي: قبل هذا تعلمون أنكم قصرتم في شأن يوسف عليه السلام، و (ما) مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، أو: (ما) مصدرية في موضع رفع بالابتداء و ((من قبل ما فرطتم في يوسف))، أو في موضع نصب عطفاً على مفعول ((ألم تعلموا))، وإما موصولة ومحله الرفع أو النصب على الوجهين، بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي: قدمتموه في حق يوسف من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعدما قلتم: ((وإنا له لناصحون)) ((وإنا له لحافظون)).
((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) أي: لن أفارق أرض مصر.
((حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) أي: بالرجوع والانصراف إليه.
((أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي)) أي: بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب.
((وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ))، لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.