للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء)]

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:٤٠].

((لا تفتح لهم)) أي: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، أي لا يقبل ذلك منهم؛ لأنه ليس صالحاً ولا طيباً، ومن شرط العمل الصالح أن يبنى على الإيمان، وأن يقتدى فيه بالرسول عليه السلام، وأن يراد به وجه الله، وما علق على أكثر من شرط لا يتحقق بشرط واحد، بل لابد أن تجتمع فيه كل الشروط، وإلا عدم الفعل.

فالعمل الصالح الذي يقبله الله لابد أن يكون صاحبه أولاً موحداً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:٩٧]، فلابد أن يكون موحداً، ثم لابد أن يكون مخلصاً خالياً من الرياء.

والثالث: لابد أن يكون عمله موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فلا يرفع هذا العمل إلى السماء؛ لأن الله قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] قال ابن عباس: أي لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء.

أو أن المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة ولا يغاثون؛ لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:١١].

أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء، ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة.

على ما روي أن الجنة في السماء.

أو المعنى: لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا أبواب السماء كما تفتح لأرواح المؤمنين، وقد ورد في ذلك حديث طويل عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.

والشاهد منه أنه ذكر في قبض روح الفاجر: (وأنه يصعد بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه فيأتون بها إلى السماء فيستفتحون فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ))) إلى آخر الآية، فكون السماء لها أبواب وأن هذه الأبواب تفتح للدعاء الصالح وللأعمال الصالحة أو للأرواح وارد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويلها ولا ينبغي أبداً أن يؤول قوله تعالى: ((لا تفتح لهم أبواب السماء)) بل يقال: هي أبواب حقيقية تفتح كما ذكرنا.

كذلك التضعيف في قوله: ((تفتَّح)) ليس لتكثير الفعل وإنما هو لتكثير المفعول مناسبة للمقام، كذلك قرئ بالتخفيف في: (تفتح)، وبالياء: (يفتح)، وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب يعني: لا يفتح الله لهم.

وقوله: ((وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) هذا من باب تعليق الأمر على شيء مستحيل، كأن تقول مثلاً: أزورك عندما يشيب الغراب، والغراب لا يشيب.

((حتى يلج الجمل)) يعني: يدخل الجمل ((في سم الخياط)) يعني: في ثقب الإبرة، وهل من الممكن أن يمر الجمل من ثقب الإبرة؟! هذا غير ممكن، فكذلك دخولهم الجنة غير ممكن؛ لأنه علق على شيء لا يقع.

وقد قرأ الجمهور: ((الجمل)) بفتح الجيم والميم: وفسروه بأنه الجمل المعروف، وهو البعير، قال الفراء: الجمل زوج الناقة، وقال شمر: البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة، وقرئ في الشواذ: (الجُمَّل)، كسكّر، و (الجُمَلِ) كسُرَر، و (الجُمْل) كقفل، و (الجُمُل) كعنق.

والجمّل كسكر هو حبل غليظ جداً من الحبال التي يستعملها الملاحون، فهذه الحبال الكثيفة في السفينة لا يمكن أن تمر من ثقب الإبرة، لكن هذه القراءة الأخيرة شاذة.

وقال أبو البقاء: يقرأ في الشاذ بسكون الميم الجَمْل، والأحسن أن يكون لغة؛ لأن تخفيف المفتوح ضعيف، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها الذي هو: الجُمّل وهو: الحبل الغليظ، وهو جمع مثل: صوّم وقوّم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل: أَسَد وأُسُد، ويقرأ كذلك بها إلا أن الميم ساكنة.

وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة لغات في البعير ما عدا جمّلاً كسكّر وجملاً كقُفْل، ونوقش في ذلك.

قال الزمخشري: وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله سبحانه وتعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، لأن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه.

إلا أن قراءة العامة التي هي (الجمَل) أوقع؛ لأن سم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، والمقصود من ثقب الإبرة مجرد التشبيه، يقال: أضيق من خرق الإبرة، وقالوا للدليل الماهر الذي يكون خبيراً بالطرق والدروب والمسالك في الصحراء (خريت) لأنهم إذا أرادوا أن يمروا في المضايق والطرق الملتوية أو غير المعلومة يبدأ هو أولاً ثم يقود من معه، فقالوا للدليل الماهر (خريت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخراق الإبر، والجمل مثَل في عظم الجرم وعظم الجسم، وسم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، كما يقول حسان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير وفي رواية أخرى في الديوان: (جسم البغال وأحلام العصافير) وأحلام: المقصود بها العقول.

فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان في ثقب الإبرة، فالجمل المقصود به ضرب المثل في ضخامة الجثة، وثقب الإبرة المراد به ضرب المثل في ضيق المسلك أو المنفذ.

وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: (زوج الناقة) استجهالاً للسائل.

وإجابة ابن مسعود بهذه الإجابة فيها أولاً: الاستجهال للسائل وثانياً: إشارة إلى أن البحث وتطلب معنىً آخر غير هذا المعنى المتبادل نوع من التكلف غير حميد.

وخلاصة الكلام أن الجمل لما كان مثلاً في عظم الجسم لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب، وخرق الإبرة مثلاً في الضيق، ظهر التناسب، على أن في التفسير بالجمل وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.

وعكس هذا الكلام حكاه الزمخشري عن ابن عباس قال: الجُمَّل أنسب من الجَمَل؛ لأن الجُمَّل هو الخيط الغيلظ؛ لكن بين القاسمي رحمه الله تعالى أن إيثار الجَمَل أفضل، ومعلوم أنه ليس من شأنه أن يمر من ثقب الإبرة، فكذلك الكفار ليس من شأنهم أصلاً أن يدخلوا الجنة، فهنا ظهر التناسب بهذه الصورة، فهذه فيها مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.

أما السم فهو الثقب الضيق، قال أبو البقاء: بفتح السين وضمها، ويقال أيضاً في القاتل المعروف: السُّم، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنبيه، والأفصح فيما يشرب ليقتل أنه بالضم (السُّم).

وقال الزبيدي: لم أر من تعرض لكسرهما وكأنها عامية: وهي فعلاً عامية، والأفصح أن تقول في الثقب السَم، وفي القاتل السُم.

وقال الزمخشري: وقرأ في سم الخياط بالحركات الثلاثة.

وكفى به مرجعاً.

"الخياط" ككتاب ما خيط به الثوب والإبرة، قال الزمخشري: وقرأ عبد الله (في سم المخيط) وهي قراءة شاذة.

قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: ((حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) جواز فرض المحال والتعليق عليه كما يقع كثيراً للفقهاء، والتعليق على المحال معروف في كلام العرب، كقوله: إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب يعني: فلن يأتيهم أبداً؛ لأن الغراب لا يشيب.

(وصار القار) وهو الزفت الأسود الذي ترصف به الشوارع أبيض (كاللبن الحليب).

((وكذلك نجزي المجرمين)) مثل هذا الجزاء الفظيع.